البيان النبوي وتجديد الأدب العربي
يجمع كثير من الباحثين أن من أهم روافد
اللغة العربية القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ، ويرجع إليهما الفضل في حفظها
من الإنقراض والضياع أو الاندماج في لغات ولهجات أخرى ، وقد عملا على إخصابها
وتجديد أساليبها الأدبية في القديم والحديث حتى غدت لغة الحضارة والمدنية واعترفت
بها المحافل الدولية في عصرنا الحاضر ، وما ذلك إلا بفضل القرآن الموحى والبيان
المحمدي المدون في كتب السنة .
ولعل من الشواهد على ذلك ـ كمثال ـ ما كانت
عليه اللغة العربية وأدبها في صدر العصر الحديث ، من لحن يشيع في المؤلفات وركاكة
في التعبير وعجمة تكاد تتغلب على العربية وعامية مبتذلة بين الخاصة والعامة وصنعة
بديعية بغيضة متكلفة ، وقد شاع ذلك في الشعر والنثر حتى طغى على أكثر الأساليب
وأولع المتأخرون بالزخارف حتى أفسدوا الديباجة الأدبية المطبوعة وأخرجوها عن خصائص
الجدة والابتكار .
ولكن في بداية القرن العشرين الميلادي بدأت
تنحسر طريقة الصناعة اللفظية المتكلفة البغيضة الخاوية من المعاني والتي تدلَّت
بالأدب من عصوره الذهبية إلى مكان سحيق . وجاءت طريقة النثر العربي المترسل وهي
طريقة يغلب فيها الطبع على الصنعة ولا يمجها الذوق وتتفاعل مع الحضارة وتتمشى مع
أساليب الحياة المعاصرة ، وكانت تعتمد هذه الطريقة على الاغتراف من نبع القرآن
الكريم وتتأسى بالأسلوب النبوي كما يتضح ذلك من ثقافة أصحابها من أمثال محمد عبده ،
ومصطفى لطفي المنفلوطي ، ومصطفى صادق الرافعي ، وأحمد حسن الزيات ، وعبد العزيز
البشري ، وغيرهم في مصر والشام وبعض البلاد العربية ، وأخذت الجملة القرآنية
المتشبعة بالبلاغة المحمدية مكانتها وسرت إلى المجتمعات العربية الأخرى حتى اجتثت
الأساليب القديمة البالية ، وحطمت الأساليب الدخيلة المتجردة من ظلال البلاغة
العربية ، وتقبلت الأذواق هذه الطريقة التي لا تتنكر للغة القرآن ، ولا للبيان
النبوي وبذلك ارتكزت على أسرار الإعجاز .
لقد كانت بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ
حدثا أيقظ العالم من أقصاه إلى أقصاه ، ومن معالمه تلك البلاغة التي جلجلت في
الوحي المنزل فلفتت أنظار العرب وجذبت أفئدتهم إلى سحر البيان الذي تتسم به دعوته
، وهو ـ صلى الله عليه وسلم ـ أميّ لا يقرأ ولا يكتب ، وقد بهرهم بأخبار السابقين
وأنباء اللاحقين في ثنايا ما يتلوه عليهم ، بل ويتحداهم ويتحدى الإنس والجن على أن
يأتوا بمثل هذا القرآن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . ومما يزيد من روعة هذا الحديث
العظيم أن صاحب الدعوة ـ عليه الصلاة والسلام ـ بهر ببلاغته وفصاحته وبيانه أساطين
البلاغة المتمكنين من ناصية الفصاحة وخاصة القريبين منه والمحيطين به ، حين كان
يخاطب الخاصة أو العامة أو ما كان يمليه من كتب ورسائل على كتابه وتلك الميزة التي
تميّز بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الشعراء ، وقد كان النبي ـ صلى الله
عليه وسلم ـ لا يقول الشعر ولا يقصد إلى معالجته فبرع في غيره من فنون البيان
والبلاغة . وقد قيل : اللسان البليغ ، والشعر الجيد ، لا يكادان يجتمعان في واحد
.. وأعسر من ذلك أن تجتمع بلاغة الشعر وبلاغة القلم . وقالوا : من تمنى رجلا حسن
العقل ، حسن البيان ، حسن العلم تمنى شيئا عسيرا ([1])
.
وإذا كان ذلك ينطبق على كثيرين في دنيا
الناس فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد جمع ـ فيما عدا إجادة الشعر ـ
بلاغة القول وفصاحة اللسان ، وحسن البيان ، وحسن العلم ... لأنه ـ صلى الله عليه
وسلم ـ يمتاز عن بني الإنسان بأنه تربى وتعلم وتأدب في مدرسة اللطيف الخبير . ومن
هنا اجتمعت له الخاصية في إجادة حسن البيان ، والخاصية الإلهية في استكمال الصفات
الأخرى التي هي مصدر الإعجاز البلاغي الذي لا يقدر عليه فصحاء البشر ، وهذا ما
نستطيع أن نفهمه من أقواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " بعثت بجوامع الكلم
" .
قال النووي : جوامع الكلم فيما بلغنا أن
الله تعالى يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد
والأمرين ونحو ذلك ([2])
.
وفي رواية أخرى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال : " أنا محمد النبي الأمي ـ قال ذلك ثلاث مرات ـ ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح
الكلم وخواتمه وجوامعه " ومعنى ذلك أن كلامه اشتمل على حسن المطلع أو ما يسمى
ببراعة الاستهلال وحسن الخاتمة وأن محتواه ولبه خلاصة البيان الجامع . كما قال ـ عليه
الصلاة والسلام ـ : " إني أوتيت جوامع الكلم ، وخواتمه ، واختصر لي الكلام
اختصارا " .
وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهى عن
إطالة الخطب ويوجز في خطبه . قال أبو الحسن المدائني : تكلم عمار ابن ياسر يوما
فأوجز ، فقيل به ، لو زدتنا ، فقال : أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بإطالة الصلاة وقصر الخطب([3])ونهى
عن الإسهاب والتطويل في القول حتى يكون القول مقيدا يتحقق به الفعل . أما إذا طال
الحديث فإن آخره ينسى أوله ، ولا يكون ذا ثمرة مرجوة وقد يدفع إلى الملل والتكلف .
وقد روى عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " إنا معشر الأنبياء
بكاء " والبكء : القلة . قال الجاحظ : ليس في ظاهر هذا الكلام دليل على أن
القلة من عجز في الخلقة وقد يحتمل ظاهر الكلام الوجهين جميعا وقد يكون القليل من
اللفظ يأتي على الكثير من المعاني ([4])
ولو لم يكن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أوتي جوامع الكلم لما بهر المقربين
منه وألزم المجادلين له بالحجة وفصل الخطاب من خلال تلك الكلمات القليلات . قال
أبو بكر ـ رضى الله عنه ـ لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لقد طفت في العرب
وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك ، فمن أدبك ؟ أي علمك ، قال رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ : " أدبني ربي فأحسن تأديبي " ويتضح ذلك من قول الله ـ
تبارك وتعالى ـ في تعداد نعمه على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ﭽ ﯸ ﯹ
ﯺ ﯻ ﯼﯽ
ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ ﭼالنساء:
١١٣
ومن يتأمل كلام النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ على الرغم مما تقتضيه الدعوة من سوق الحجج والبراهين وكثرة القول لبسط أهدافها
ومقاهدها ، يجده من أول خطبة ألقاها الرسول الكريم إلى خطبة حجة الوداعتتميز
بالإيجاز الذي يدفع الملل ، وتفي بالغرض ، وتوصل إلى الغاية ، وتلك السمة تنطبق
على بقية كلمه وأحاديثه . ومن هنا أمكن للباحثين إحصاء كلماته ونلاحظ أن خطبة حجة
الوداع تعد من أكبر خطبه ولكنها قصيرة جدا بالنسبة لخطب وبيانات الزعماء والمسلمين
.. ولكن هذه الخطبة قد جمعت أصول الإسلام ، وفصلت ووضحت بعض الفروع ، ومع ذلك فهي
تعد كلمات قليلة تصل في مجموعها إلى أربعين سطراً ([5]).
أما رسائله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهي
نموذج من البيان والأدب الرفيع .. ومن النماذج المشرقة ـ وكلها كذلك رسالته إلى
النجاشي ونصها " بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى النجاشي
عظيم الحبشة ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أحمد إليك الذي لا إله إلا
هو الملك المهيمن ، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم
البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى من روحه ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني
أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتوقن بالذي
جاءني فإني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله ـ عز وجل ـ وقد بلغت ونصحت ،
فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى " ([6])
والمدقق في نص الرسالة المستحضر لحال
المخاطب ، وحالته النفسية ، وعقيدته التي يدين بها ، ومكانته بين قومه يدرك ينابيع
البلاغة ، وفطانة النبوة ، وسحر البيان ، الذي يتجلى في كلماتها الموجزة وذلك قليل
من كثير من فيض هديه ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا المجال ، ومن السحر الحلال في
بيان تلك الخطبة الموجزة .
قال الجاحظ : خطب رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ بعشر كلمات ، حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : " إيها الناس إن لكم
معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم ، إن العبد بين
مخافتين : بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به ، وبين آجل قد بقى لا يدري ما
الله قاض فيه ، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ، ومن الشيبة قبل
الكبر ، ومن الحياة قبل الموت ، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا
بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار " .([7])
ومن نماذج الأحاديث ما يجمع قلة الكلمات
وسعة المعاني بما لا يدع مجالا للشك في تفوق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على
بلغاء العرب ، فقد سارت كلماته في الناس كالمثل ، وعمقت في فقه اللغة العربية ،
وأدخلت معاني جديدة لم تكن معروفة من قبل . ونكتفي بعرض القليل على سبيل التمثيل .
قال الجاحظ : وسنذكر من كلام رسول الله ـ
صلى الله عليه وسلم ـ مما لم يسبقه إليه عربي ولا شاركه فيه أعجمي ولم يدع لأحد
ولا ادعاه أحد ، مما صار مستعملا ومثلا سائرا ([8])فمن
ذلك قوله : " يا خيل الله اركبي " وقوله " مات حتف أنفه "
وقوله " لا ينتطح فيه عنزان " وقوله " الآن حمى الوطيس " .
وذكر الجاحظ نوعاً آخر من كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو الكلام الذي قل عدد
حروفه ، وفاضت معانيه ، وجل عن الصنعة ونزه عن التكليف ، وكان كما قال الله ـ تبارك
وتعالى ـ : قل يا محمد " وما أنا من المتكلفين " فلم ينطق إلا من ميراث
حكمة ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفًَ بالعصمة ، وشُيِّد بالتأييد ، ويُسِّر بالتوفيق
، وهو الكلام الذي ألقى الله عليه المحبة ، وغشاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة
والحلاوة وبين حسن الإفهام ، وقلة عدد الكلام مع استغنائه عن إعادته ، وقلة حاجة
السامع إلى معاودته ، لم تسقط له كلمة ، ولا زلت به قدم ، ولا بارت له حجة ، ولم
يقم له خصم ، ولا أفحمه خطيب ، بل يبذ الخطب الطوال بالكلم القصار ، ولا يلتمس
إسكات الخصم إلا مما يعرفه الخصم ولا يحتج إلا بالصدق ولا يطلب الفلح ([9])
إلا بالحق ، ولا يستعين بالخلابة ، ولا يستعمل المواربة ولا يهمز ولا يلمز ، ولا
يبطئ ولا يعجل ، ولا يسهب ولا يحصر ، ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعا ، ولا
أقصد لفظا ولا أعدل وزنا ، ولا أجمل مذهبا ، ولا أكرم مطلبا
ولا أحسن موقعا ولا أسهل مخرجا ولا افصح معنى ولا أبين فحوى من كلامه ـ صلى الله
عليه وسلم ـ كثيرا .
فمن كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين ذكر
الأنصار " أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع ، وتكثرون عند الفزع
" وقوله : " الناس كلهم سواء كأسنان المشط " وقوله " المرء
كثير بأخيه " وقوله " لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له "
وغير ذلك كثير في كتب السنة .
ومن هنا يُتَبين أن دراسة الحديث الشريف
ثروة أدبية ، وبعث وتجديد لأساليب اللغة العربية ، وزاد لمن يريد أن يسير في موكب
الفصحاء ، وأمراء البلاغة ، ومع هذا النمط الرفيع من الأسلوب يكتسب الدارس الفضائل
، والقيم والمثل العليا ، ويرتقي إلى مصاف الملائكة ، فهو أدب قد جمع جمال اللفظ ،
وشرف المعنى ، ويدعو إلى سعادتي الدنيا والآخرة .
بارك الله فيك يا شيخ
ردحذف