اغتراب اللغة العربية بين أهلها


اغتراب اللغة العربية بين أهلها

في هذه الصحوة الإسلامية المباركة و إشراقات الإسلام في الشعوب الغربية و الشرقية مما لا يخفي علي المهتمين و المتربصين بحركة الإسلام ونموه والذين أزعجتهم بدخولها إلي عقر دارهم بدأ الغرب يعيد حملاته الصليبية بطريقة جديده تناسب روح العصر ويركز علي ضربة في مقتل من أهم عناصر وحدة الأمة الإسلامية ألا وهي اللغة العربية لغة القرآن الكريم التي تحرك وجدان كل مسلم فوق هذه المعمورة . فما من مسلم إلا ويتلو القرآن باللغة العربية ويخشع لها ويلين قلبه ( في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : جاء قيس بن مطاطية إلي حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومى وبلال الحبشي ’ فقال : هذا الأوس و الخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل ـ يعني النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما بال هذا ( يعنى الفارسى و الرومى و الحبشى ) مايدعوهم إلي نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه . فقام اليه معاذ بن جبل ـ رضى الله عنه ـ فأخذ بتلابيبه (ماعلى نحره من ثياب) ثم أتى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره بمقالته ، فقام النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ مغضبا يجر رداءه ـ لما أعجله من الغضب ـ حتي أتي المسجد ثم نادى الصلاة جامعة (ليجتمع الناس ) و قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ :( أيها الناس الرب واحد , والأب واحد , وإن الدين واحد , وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم , وإنما هى اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربى ) فقام معاذ فقال : فما تأمرنى بهذا المنافق يا رسول الله ؟ قال : ( دعه إلى النار ) فكان قيس ممن ارتد فى الردة فقتل )([1]) لذا اتجه الغرب ومن يدور فى فلكهم للتركيز على قطع هذه الرابطة المقدسة بكل الوسائل والامكانات المادية والمعنوية و السياسية , فمن بعد فشل الدعوة إلى العامية التى تبناها الإنجليز وعملاؤهم فى مصر والعالم العربى حيث( ([2]) يرى أكثر الهاجمين على الشرق أن تقطيع أوصال العرب و المسلمين لا يمكن أن يتم ما دام هنالك ( لغة واحدة ) يتكلمها العرب ويعبر بها العرب و المسلمون عن أرائهم و ما دام هناك ( حرف عربى ) يربط حاضر المسلمين إلى تراثهم الماضى . فإذا حمل المبشرون والمستعمرون العرب على الكتابة باللغة العامية أصبح لكل قطر عربى لغة خاصة به أو لغات متعددة , ثم إذا هم استطاعوا أن يحملوا المسلمين على التخلى عن الحرف العربى واحلال الحرف اللاتينى مكانه انقطعت صلة العرب

تماما بأدبهم القديم وبالمؤلفات الدينية واللغوية والأدبية و التاريخية والفكرية , حينئذ يصبح العرب ( وحدات ) لغوية فكرية غير متعارفة , ثم تتنافر هذه الوحدات مع الزمن فيسهل اخضاعها بجهد أيسر من الجهد الذى تحتاج إليه هذه الغاية الأن )

ثم جاءت الدعوة إلى كتابة الحروف العربية بالحروف اللاتينية وتقدم بها زعيم من زعماء الوطنية فى مصر ورفيق لسعد زغلول وهو عبد العزيز فهمى , بل وتقدم بها فى اقتراح ألى بيت اللغة العربية وحاميها وهو (مجمع اللغة العربية) فى يناير 1944 م ...

ثم جاءت حملات مركزة وبمناهج مدروسة ومخطط لها بعناية وبعمالة من بعض المسئولين لتغريب اللغة العربية فى موطنها فهناك روضات للأطفال ترضعهم غير اللغة العربية ,وهناك مدارس للغات الأجنبية بكل صنوفها , ثم إن المدارس الحكومية تقرر مادة اللغة الإنجليزية على من هو دون العاشرة مع الإهمال فى تطوير تدريس اللغة العربية كما وكيفا .

هذا إلى جانب انتشار المدارس الأجنبية بمناهجها الخاصة وكتبها المستورة والمطبوعة فى الخارج حسنة الإخراج ولها أهداف خاصة كما يقول ( جب ) ( ([3]) إنها لن تفرز إلا هياكل بشرية خالية من الفضائل والأخلاق و المثل لتفريخ مسوخ آدمية متنكرة لدينها ووطنها وأبناء جلدتها ) ومن يطلع على مناهجها يدرك طعنة لفلذات أكبادنا فى دينهم وتراثهم .

وفى السنوات الأخيرة بدأت الجامعات الأجنبية تغزو العالم العربى بعد أن كان الطلاب يوفدون إليها فى زمن رفاعة الطهطاوى وطه حسين وغيرهما فيما بعد , ولم يكن مجىء هذه الجامعات بغرض نشر العلم والمعرفة والثقافة والوقوف على أحدث ما وصل اليه العلم وإنما لها أهداف فى البلاد الإسلامية عامة والعربية خاصة (([4]) و انتشار المدارس الأجنبية فى البلاد الإسلامية وقد كان فى البداية سبيلا لتنصير المسلمين .. وعلى هذا نصت بعض مؤتمرات التبشير وعلى هذا نفهم انشاء الكلية الإنجيلية فى بيروت وانشاء الجامعة الأمريكية فى مصر ) .

إنما الهدف من نشر الجامعات الأجنبية في العالمين العربي و الإسلامي التبشير الذي من أهدافه التنصير والتفريق الذى يؤدى إلى ضياع اللغة العربية عن طريق اللغات الأوروبية و العامية و اللهجات المختلفة .

ولا شك أن الدعوة إلي الحضارة و التقدم و العلم و المدنية بجلب جامعات فى دول الخليج كالسربون و فى مصر كالجامعة الكندية و الألمانية و غيرها مما هو معلوم لدى الدولة وما هو يعمل فى السر تقوم بهذه المهمات ’ ومن المسلم به فى التجارب العلمية أن تعلم اللغات يضعف شوكة التدين و يدنى التعاطف بين أبناء اللغة (([5]) ومن الأمثلة على ذلك أن الإنجليز حين أعادوا فى مصر تجربتهم التى نجحت فى الهند و هى نشر اللغة الإ نجليزية حتى تكون لغة تخاطب ’ ففرضوا التدريس بها ، لم يقف فى طريقهم إلا الإسلام الذى يقدس اللغة العربية ، فى حين أن الطريق كان ممهدا فى الهند التى لم يكن لها لغة مقدسة ).

لقد حافظ الإسلام على اللغة العربية فالقرآن لا يرتل إلابها ، وبعض العبادات لا تصح إلا بها كالصلاة وخطبة الجمعة و العيد و خطبة عرفات .

وهذه الحشود من الجامعات الغربية تدرك هذه الحقائق فبذلت المال والرجال فى غزو وتبشير صليبى تحت راية الثقافة و التعليم والتمدن الذى يعتمد على طمس اللغة العربية و المتأمل المحقق يتضح له ( ([6]) إن الحملة على العربية الفصحى إنما هى فى حقيقتها حملة على اللغة التى تجمع بين العرب والمسلمين ، وحملة على العروبة والإسلام وأمنية فى أن يصبح القرآن كتاب دين لا صلة له بالحياة ، يستطيع نفر من المسلمين أن يقرأوه من غير أن يفهموا منه شيئا و من غير أن يشعروا بمافيه إلا كما يشعر الوثنى إلى صورة معلقة فى الجدار أو إلى وثن قائم على قاعدة من الحجارة غير أن الله الذى جعل فى القرآن من عناصر الخلود ما حفظه إلى اليوم بينما جميع اللغات التى كانت فى عصره أو بعد عصره أيضا بادت بعدد كبير منها، سيجعله خالدا أيضا ) .

ومجامع اللغة العربية تقوم بجهد مشكور فى وضع مصطلحات العلوم والفنون باللغة الفصيحة و لكن جهدها يحتاج إلى مساندة و جهد من السلطات الحكومية التعليمية و الإعلامية و غيرها، ففى مصر يشكو المجمع من إصدار توصيات وقرارات مما يساعد على تقوية اللغة ولكن الدولة تهملها .

فالمسئولية الكبرى عليها فى جعل اللغة العربية هى لغة التعليم و بخاصة فى كل الكليات النظرية والعلمية، و استمرار علاقة طلاب الجامعة بلغتهم العربية بدلا من انقطاعهم عنها منذ التعليم ما قبل الجامعة ، وهى معلومات غير كافية وغير منهجية فى تحصيلها .

كما أن المسئولية على الدولة فى جعل اللغة العربية هى المتفردة فى وثائق السفر و أسماء الشوارع والمعالم داخل الوطن و خارجه و فى لافتات المحلات و الشركات و المؤسسات حتى يستفيد الزائر الأجنبى أثناء إقامته فى الدول العربية من معرفته لبعض الألفاظ ( ([7]) جوازات سفرنا مكتوبة بالعربية لغتنا ولغة بلادنا و بالإنجليزية، و كل الجوازات فى العالم العربى مثلنا . و لو خلت جوازاتنا من اللغة الأجنبية لما قبلتها الدول الأجنبية ولما سمحت لنا بدخول أقطارها.... و المقابلة بالمثل شريعة متبعة تعترف كل الدول بها إلا فى البلدان العربية......

فإن على الدول العربية أن تشترط على الدول الأجنبية أن تكتب جوازات سفرها بالعربية أيضا وهكذا علينا أن نعتز بلغتنا المقدسة لغة القرآن الكريم ) ،وللأسف فإن بعض الدول العربية تشترط فى طلب الوظائف إجادة لغة أجنبية حتى يلتحق بالوظيفة ، وهذا يعيدنا إلى ما فعله سعد زغلول سنة 1906 م عندما جعل لغة التعليم بغير العربية حتى يتسنى للمصريين العمل فى الشركات الأجنبية الإنجليزية و الفرنسية وإذا سارت الدول العربية على هذا المنهج فإنى أخشى أن يأتى يوم يطلب فيه وظائف لغير الناطقين بالعربية فى بلاد يقول الله لهم (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) و (وإنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) , (وإنه لكتاب عزيز.لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) ويقول الله تعالي لهذه الأمة (كنتم خير أمة أخرجت للناس).

فلتك اللغة العربية هى لغة المسؤلين فى كل محفل رسمى أو غير رسمى إحتراما لشخصهم عزة لتمثيل الأمة الإسلامية وصونا لكرامتها من الإمتهان الذى لاتدعو إليه الضرورة فى مخاطبات الآخرين بلغاتهم و الإطلاع على ما لديهم .

عن ابن عمر (رضى الله عنهما) عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلمن بالفارسية ،فإنه يورث النفاق) صححه السيوطى .

فاللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب ، فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ([8]) .

ورحمة الله على حافظ إبراهيم إذ يتكلم بلسان اللغة العربية فيقول :

أرى لرجال الغرب عزا ومنعة       وكم عز أقوام بعز لغات

أتوا أهلهم بالمعجزات تفننــــــا        فياليتكم تأتون بالكلمــات

أيطربكم من جانب الغرب ناعب     ينادى بوأدى فى ربيع حياتى ؟

 

 

الأستاذ الدكتور : عبد الباسط حمودة

 

 

 



     (1) مجلة الأزهر عدد ربيع الأول 1433
(2) التبشير والأستعمار : د عمر فروخ 224
     (3) الأساليب الحديثة فى مواجهة الأسلام د سعد الدين صالح ص 87
    (4) أساليب الغزو القكرى د على جريشه ص 66
    (5) الأتجاهات الوطنية جـ 1 (محمد حسين)
    (6) التبشير والأستعمار : ص 231 د عمر فروخ
   (7) قضايا ومشكلات لغوية أحمد عبد الغفور عطار ص 23
   (8) فيض القدير جـ 6 ص 38 المناوى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق