الشعر الإسلامي في أعمال حسن عبد الرحمن القرشي
كوكبة من أدباء الجزيرة العربية في العصر
الحديث استطاعوا أن يخرجوا بأدبهم إلى آفاق عربية رحبة ، وينتزعوا الإعجاب
والتقدير والإجلال لنتاجهم من أئمة النقد والأدب والفكر في الأقطار العربية ، من
أمثال طه حسين ، وعباس محمود العقاد ، وأحمد حسن الزيات ، والفيتوري ، والبياتي ..
وغيرهم .
من هؤلاء الذين تخطوا بأدبهم الحدود : أحمد
عبد الغفور عطار وحسن عبد الله القرشي ومحمد على السنوسي وطاهر زمخشري ومحمد حسن
فقى وحمزة شحاته وأحمد السباعي وعبد القدوس الأنصاري .. الذين تميزوا بسمات معبرة
عن مجتمعهم العربي والإسلامي والإنساني .
وفي جانب من أعمال الشاعر حسن عبد الله
القرشي تتضح لمحات الأصالة العربية ، المنغمة بفن عمر بن أبي ربيعة ومشربة بعبير
منازل الوحي ، تلامس الوجدان وتزكي فطرة الإيمان في بني الإنسان ، فشعره الإسلامي
بجماله وجلاله وموسيقاه وجرسه المتميز ، يقع من النفس موقع السحر الحلال .
وهذه ثمرات روحية عاطرة ندية ، جنيناها من
حدائقه الإيمانية التي نبتت في مهابط الوحي :
مثابة آمال الورى نفحاتُــــــه تفَيضُ على الدنيا ندىً وتـروعُ
هي الروضُ بسّاما هي الصبحُ ناضرا هي البدرُ تغدو الروح منه شموع
الإنسان فطره الله على التدين ، وتظهر فيه
غريزة التدين واضحه عند الشدائد : ﭽ ﮞ
ﮟ ﮠ ﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ
ﮬ ﮭ ﮮ
ﮯ ﮰ ﮱ
ﯓﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘ ﯙ
ﯚ ﯛ ﭼيونس: ١٢
وعرض الشهرستاني في الملل والنحل ، بعض
الأشعار الجاهلية التي تتجه إلى الخالق الحق ، وتنأى عن عبادة الأوثان والأصنام ،
كما في عصرنا الحديث ، عصر الماديات ووسائل اللهو ، وفن الإعلام ضد التدين ، ولكن
ذلك لا يوقف الاتجاه إلى التدين ، والبحث عن الحقيقة والدين الصحيح مما يلفت نظر
المعنيين في العالم .
وفي أدبنا العربي القديم والحديث وفي الشعر
خاصة ، يبدو التأثر بالروح الإسلامي استجابة للفطرة التي فطر الله الناس عليها،
وظهر الشعر الإسلامي لحسان بن ثابت وكعب بن زهير .. وأبي العتاهية وابن الفارض
والبوصيري ، والبارودي ، وشوقي وأحمد محرم وضياء الدين رجب ومحمد حسن فقي ومحمد
على السنوسي وحسن عبد الله القرشي .. وغيرهم .
وفي الصفحات التالية استعراض للشعر الإسلامي
للشاعر حسن عبد الله القرشي " المولود في مكة المكرمة سنة " 1344 هـ /
1925 م " في أعماله الشعرية الكاملة ([1])
.
هذا الشاعر بحكم مولده وثقافته التي جمعت
بين القديم والحديث ، حيث تخرج من مدرسة الفلاح ثم المعهد العلمي السعودي ثم جامعة
الرياض ، ومع خبرته الطويلة وتقلبه في عدة وظائف داخل وطنه وخارجه ، وفي ظلال
تجربته الشعرية المبكرة وشغفه بالقراءة في أدب التراث خاصة العصر الجاهلي والعباسي
، وعمر بن الفارض والبوصيري والبارودي وشوقي .. بحكم ذلك وغيره وضحت في شعره
" نفحات من الحجاز ولمحات من قريش ونغمات من ابن أبي ربيعة وأن في أولئك كلهم
الدليل على أن مشارق النور لا تزال تهدي ومنازل الوحي لا تزال تلهم " ([2])
وأيضا " في لغة شاعرنا جدة ويسر يدنيانه إلى الفهم ويؤذنانك بأنه منك وبأنك
منه ، وعليه مع ذلك مسحة من رصانة البادية تذكرك بشعر الحجاز في أزهى عصوره وأروع
جزالته ، وليس في ذلك شيء من الغرابة فنفس شاعرنا تعيش في أشد البيئات اتصالا
بالحضارة الحديثة وإمعانا فيها ، وهو يعيش في الحجاز والبادية من قريب ، فهو جديد
قديم حاضر باد ، وهو قريب منك بعيد عنك .. إنه يبشر البيئات الأدبية العربية ، بأن
مهد الشعر الحجازي الإسلامي قد استأنف مشاركته في إغناء النفوس ، وإمتاع العقول
والقلوب " ([3])
والقرشي بحس الفنان وصفاء نفسه ونظراته المتأملة وخياله الواسع ومنطقه العلمي
المبني على تجاربه الاجتماعية في دنيا التعامل مع أنماط مختلفة من البشر ، استطاع
أن يتبوأ مكانة مرموقة في المجتمع الأدبي ، فهو أحد أقطاب ندوة المنهل التي تضم
صاحب المنهل عبد القدوس الأنصاري ومحمد سعيد العامودي ومحمود عارف وأحمد السباعي
وعبد المجيد شبكشي وعبد الفتاح أبا مدين وشكيب الأموي ، وينشد القرشي من ذاكرته
القوية مطولات القصائد ([4])،
ويحتل مكانة رفيعة في مجمع الخالدين ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ويسهم فيه
أدبيا ولغويا .
وإذا كان القرشي يقول في مقدمة ديوانه
" ألحان منتحرة " عن شعره " شعري هو زادي منه تقتات روحي ، وفي ظل
دوحته السمقة أتفيأ أحيانا ظلالا وارفة وأتنشق عبير أنسام عابقة " فإن شعره
الإسلامي يعبر عن روح وإيمان ، وعقيدة شاعر عاش بكل كيانه في رحاب الوحي ، استلهم
القديم وشهد الجديد ، مما يجعلنا نتتبع خصائص شعره الإسلامي التي يتميز بها عن
كثيرين .
ولا يستطيع باحث أن ينفي عن بقية شعره روح
الإسلام ، فمحافظته على خصائص الشعر العربي ، وعنايته بالمقاييس اللغوية والفنية ،
واهتزازاته لأحداث العروبة ومشاركته الإسلامية والإنسانية .. كل ذلك لا ينفصل عما
يدعو إليه الإسلام ، وللشاعر القدح المعلى في ذلك .
ولكن هنا نقتصر على الشعر الإسلامي في إطار
محدد بالشكل والموضوع ، أكثر من تحديده بالمضمون الواسع الذي أشرنا إليه فيما سبق ،
فنعرض لأكثر القصائد التي جاءت في أعماله وهي " صلاة شاعر " و "
قبس من الهجرة " و " في مولد الرسول الأعظم " و " من وحي
الكعبة " و " رباه " و " في ظلال البسفور " و " مهد
الإسراء " و " القدس والأطياف الممزقة " ونقف مع نماذج ترسم
الاتجاه الإسلامي عند الشاعر .
ونستعرض صورا من هذه القصائد ، بحيث يتضح
فيها تدفق عاطفة الشاعر الإسلامية وصدقها ، في إطار فني بديع ينم عن شخصيته
ومقدرته على تطويع اللغة العربية إلى لغة شاعرية ، ويحقق خصائص الأسلوب بكل عناصره
، وهي الصحة والوضوح والدقة ، ويجيدفي التوفيق بين اللفظ والمعنى ، بحسن اللفظ
وجودة السبك ، في خيال محلق وتجربة شعرية ، أخرج فيها كل خوالج النفس الإنسانية ، ولم
يكن هذا النوع من الشعر ، وأعنى به الشعر الإسلامي ، يقصد به التزلف للآخرين ، وإنما
تبعثه دوافع نفسية صادقة ، ومما سما بشعر القرشي الإسلامي أنه ـ في أغلبه ـ لم
يرتبط بمناسبة من المناسبات التي يمجها النقد الأدبي الحديث ([5])
" التجربة الشعرية إفضاء بذات النفس ، بالحقيقة كما هي في خواطر الشاعر
وتفكيره ، في إخلاص يشبه إخلاص الصوفي لعقيدته ، ويتطلب هذا تركيز قواه وانتباهه في
تجربته ، فلا يعد من التجارب الصادقة في شيء شعر المناسبات ، لأنه لا يعتمد على
صدق الشاعر .. "
وهذه إحدى قصائده
التي تعبر عن خلجات الشاعر النفسية يتجه في " صلاة شاعر ([6])
إلى خالقه حتى في شروده ويشكو ضيقه الخانق من عالمه ، الذي غدا فيه الناس كالذئاب
الكواسر ، فيلوذ بحمى ربه فيجد كهفا آمنا :
أرومُ انطلاقي
نضواً إليك إلى نورك الغامر الدافقِ
إلى واحة من حنان
الخلود إلى نبضة الأمل الشارقِ
هناك أشيم لذاذات
روحى وأرشف
من كوثر رائقِ
هناك تفيض الرؤى حلوة تضوَّعَ بالأرج العابـق
وأسبحُ في أفق حالــمٍ وأرنو إلى عالم شائـقِ
وأمسحُ آلامي
المضنيات ببابك يبسُمُ للطــارق
صور شعرية رائعة
تجسم الشاعر في انطلاقة الفراشة إلى النور الغامر الدافق ، يفر من ظلم وظلام ، وألم
وآلام مضنيات ، إلى واحة الحنان والخلود ، وفي رحابها تجد الروح المتعة والشبع
والري ، فيعود إلى الحياة وقد ترك اليأس والقنوط ، لأن روحه سبحت في رحاب ربه فمسح
كل ما يشعر به من تعب الحياة ونكدها، ويذكرنا الشاعر المكي في رحلته هذه برحلة
المسلم من مجتمعه ، حين يفر مهاجرا إلى الله تعالى ، إلى بيته المحرم فيلتصق بقلبه
وجسده بالكعبة ويتعلق بباب الملتزم ، متضرعا باكيا ، وهو هنا ينسى كل جراحات الناس
، وتحلق نفسه في أفق رحب كأنه طفل وليد . وفي كلمات " أرشف وأسبح وأرنو وأمسح
" وغيرها من الإيحاءات ما يوضح ملامح النص وما يكشف عن أعماق الشاعر الروحية ،
في رقة من التعبير :
إلهي إني فقيرٌ إليـــك فخذ بيدي أنت خالقـــي
وإني غريبٌ فدع
غربتي ترفرفُ لدى الوطن السامق
وفي قصيدة "
قبس من الهجرة ([7])
" وهي قصيدة تزيد عن الستين بيتا ، استهلها بهذا المطلع القوي المعبر
بموسيقاه الداخلية والخارجية عن نفسية مفعمة بالإيمان :
صفق الوجد في الفؤاد وغنـى وتجلى الحنين في النفس لحنــا
إيه يا ذكريات من أين ضاءت صور
منك تترك الروح مضنى ؟
تبعث الماضي المجيد لعينـــي صفحات تشع نورا وحسنــــا
هو ماضٍ من البطولات قد صيـ ـغ وشيدت به المكارم حصنــا
ومع المقدرة الفنية
، والموسيقى المتميزة ، تتواءم مع الصياغة الشعرية ، فلا قيمة للشعر إذا لم يكن
الشعور واضحا جليا ، فالشعور والوجدان الإنساني هو الذي يفرق بين الشعر والنظم ،
ولعب الخيال والمجاز في المطلع دوراً واضحاً ، فالوجد في الفؤاد صفق وغنى ، والحنين
في النفس تجلي لحنا ، والذكريات تضيء من كل شيء ، وفي كل كيان في الداخل والخارج ،
ولا يدري من أين تضيء ؟ لكنها تضيء الروح حين ترجع إلى الماضي الذي ينبعث أمام
الشاعر ، بل يراه مائلا في منزل الوحي ، صفات تشع النور والجمال والجلال ، على
بطولات شادت المكارم للإنسانية جمعاء ، بعد أن كانت الدنيا تموج بتيارات الشرك
والقهر والظلم والفساد :
وهو وحي منزل رف
بالحكــ ـمة والخير كم تحرش لُسنـا
فيه هدى الدنيا
وفيه سنا الأخـ ـرى ومنه الضلال يندك
ركنا
هو آي ينساب في
مسرب الرو ح وشرع أهدى العظيم فأغنـى
والمتأمل في هذه
القصيدة يقف مع كل بيت فيها وكل كلمة ، بل بعض الحروف بموقعها في القافية أو في
كلمة ما ، تعطي عمقا للمعنى وبعدا في المبنى ، فالاختيار والتجديد والعذوبة
والسهولة مع البعد عن الابتذال والإسفاف ، كل ذلك ميزات للشاعر نقلته إلى مرتبة
بين صفوف الشعراء المجودين . ومما يرفع من قدر شعره الإسلامي ، ويضاف إلى ما تقدم
الإحساس المرهف ، وشفافية المسلم الصادق الإيمان ، كما نرى في حسن تصويره وجمال
صياغته لموقف أهل مكة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل الدعوة وبعدها :
جرعوك الآلام لم
يستديمـوا فيك قربى أو يفقهوا لك
شأنــا
لقبوك الأمين لم
تعرف الميـ ـنْ فكيف ارتضوا لصدقك
غبنا
وفي حديثه عن الغار
الذي لجأ إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رضى الله تعالى عنه :
أي حصن ضم المغانم
والخـ ـير سميا واستجمع الفخر مغنى
لمس الطهر صخرة وثــراه فهو تبر يروع حساً ومعنـــى
تلك صورة جمالية
نسقت بيد فنان ، تعهدها بهندسة اللفظ وتناسقة مع المعنى ، كما نرى في قوله "
الفخر مغنى ـ لمس الطهر ـ يروع حسا ومعنى " ويمكن أن نتامل كلمة " مغنى
" وكلمة " معنى " وحسب هذه الكلمات أنها توضح الصور الأدبية ، وتعبر
بموسيقى راقصة تثير المشاعر الإيمانية ، وترتقي إلى مستوى يتفق مع جلال الحدث :
يا لها لحظة تشيب
لها الولـ ـدان ذعرا وتسقط الشهب
حزني
يا لها لحظة أفاضت
على التا ريخ ذكرا في الخافقين مرنـــا
ويتأمل الشاعر
عناية الله بإنزال سكينته على رسوله وصاحبه ، وتلك الحماية بأوهن الأشياء وأضعفها
، ففي ذلك ما فيه من الآيات والعبر ، التي تقتبس من الهجرة النبوية ، ويلتفت
الشاعر إلى حاضر المسلمين وقد أحاطت بهم جحافل الشر والبغي والباطل ، يغتال الشرق
بمقدساته ، وهم يحيون كالطفل يخرسه الطبل ، أو كالطير في القيد وينامون على الضيم
تشتتهم الأهواء بينما وحدتهم في عقيدة كالشمس سطوعا وكالرواسخ متنا :
إن في هجرة الرسول
لمعنـى جل أن يستسر أو يستكنـــا
هي صوت الحق المبين
يدوي ملء سمع الوجود وهديا وأمنا
فابعثى يا قياثر
الخلد في نفــ سي صداه كي أستمد
وأغنـى
ومن قصائد القرشي
الإسلامية " في مولد الرسول الأعظم " التي يستهلها بهذا البيت ([8])
:
يالبشرى علوية
الترديـــد غمرت بالهدى شعاب الوجود
؟
يصور الشاعر أن
بشرى علوية تتردَّد فتغمر بالهدى شعاب الوجود كله ، وذلك استهلال ينبئ عن ملكة
شعرية تبعده عن شبهة التقليد الواضح عند كثير من الشعراء ، ولكن شاعرنا استطاع بثقافته
الواسعة العميقة ، ألا يكون صدى لغيره وخاصة من الذين تأثر بهم في مطلع حياته ، كأحمد
شوقي صاحب المطلع الغنائي الشهير :
ولد الهدى
فالكائنات ضياء وفم الزمان
تبسم وثناء
فالمطلع هنا يجعل
من مولد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مولداً للهدى ، فأضاء الكائنات ، وأن الزمان
في تبسم وثناء لهذا الإشراق المحمدي ..
ويتابع القرشي
أطوار حياة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في جدة من التعبير ، ومقدرة متأججة
العواطف لا تفتر ، وصور بيانية مغرقة في ضروب البلاغة في غير تكلف :
هو فجر فرد على غرة
الدهـ ـر وعيد مخلد التجديـد
ورؤى صاغها الإله
فكانــت طلعة فذة لخير وليـــد
فجرت في الجواء
ألوية النـو ر لتجلو من الظلام
العتيد
عبارات في كلمات
قليلة الحروف لكنها كبيرة في معانيها " فجر ، فرد ، غرة ، عيد ، فذة ، وليد ،
جواء .. الخ " والفضل في ذلك للصياغة ، واتركيب الذي يتفاضل به الشعراء
والكتاب في كل عصر .
ولنقف مع كلمة
" جواء " ([9])
وهي الواسعة من الأودية أو جمع لجو وهو الفضاء بين السماء والأرض ، وهو ما يعنيه
الشاعر بالنظر إلى السياق .. واختياره لهذا اللفظ ليتلاءم مع ما حوله من ألفاظ تؤدي
المعنى على أكمل وجه يتسع له خيال ، فإن النور إذا انبلج من الفضاء يبدد أكبر
تراكمات الظلام ، وتظهر معالمه لكثير من سكان الأرض . وفي نهاية القصيدة يتجه
شاعرنا إلى تلك الأضواء التي اهتدت بها الأمة الأمية ، فأضاء بهذا النور طريق
الإنسانية ، ثم ما لبثت أن انحرفت عن الاهتداء به ، فعلاها قتام بدد شملها وجعلها
نهبا لأعدائها :
موكب النور قد
عشينا فأرســـل قبسة من ضيائك المنشـود
قد تعالى القتام
وارتكم الميــــ ـن وبؤنا بواقع
منكــود
قبسة فالظلام هد
قوانــــــا وامتداد الظلام لا شك يودي
ها هنا مهبط
الرسالة مهوي السـ ـحق مجلى لعالم موعـود
وكثير من الشعراء
المعاصرين التفتوا إلى واقع المسلمين المعاصر في شعرهم الإسلامي ، فهذا شاعر مكي
معاصر لشاعرنا ، وهو محمد حسن فقي يقول في قصيدته " من وحي النبوة " ([10])
:
عودوا إلى الإسلام
إن سبيلـه ما تلتوي في جيئة وذهـاب
ويقول في قصيدة
" العروبة والإسلام " ([11])
:
قل للرسول .. بأننا
في محنـة نكراء .. تستهدي بغير
قياسه
قدحت بها الشرر
المبيد عصابة كانت من الإسلام شر أناسـه
وقد فعل شوقي مثل
ذلك فلا يعاب علىالقرشي في ربطه بين الماضي والحاضر في قصائده الإسلامية ، كما
سنرى في قصيدة " في ظلال الغار " ([12])التي
صدرها بأبيات عن تأثير دعوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قريش وعاداتها
وعبادتها ، ولكنها تمادت في مقاومتها كبرا وعنادا ، وتحاول القضاء عليها فتعد
العدة لقتل صاحبها ، فيخرج مع أبي بكر مهاجرا ويأوي إلى الغار وتتجلى معجزة :
ياللغباوة في رهط
شعارهم ضلالة وطواغيت وأقـــذاء
خسئتم لن تنالوا
منهما أربا " الغار
" حصنهما ما منه إدناء
يا للحمام الذي آوى
يسيجه والعنكبوت فما تقفوه
بأســاء
ومنها قوله :
أصغى إليها ترانيما
مقدسة والقلب تفعمه ذكرى
وأنــداء
وفي مناجاة روحية
بلغة شاعرية ، وبقلب خاشع بالإجلال ، يقترب من " موكب النور " ([13])
إلى مقامه العالي في مدح علّه يصل إلى ما يليق بالرسول الأعظم ـ عليه الصلاة
والسلام ـ :
رسول الهدى هيهات
يبلغ مادح علاك منيفا كالزمان يضوع
بلغت ذري المجد
الذي ليس بالغ سواك إليه ما زهاك
صنيع
ويتألم الشاعر لجراحات المسلمين
في حاضرهم ، فيختم القصيدة بالدعاء لهم :
تداركهم يارب وأملأ
قلوبهـــم
ثباتا ليغدو الشمل
وهو جميع
وحطهم بعطف منك
يأسو جراحهم وعفوك يارب الأنام شفيـع
أما في قصيدة "من وحي
الكعبة" ([14])
فيقف الشاعر أمام الكعبة ، ليصور بريشته ما توحيه إليه حين تلتصق بها أجساد وقلوب
المسلمين من شتى أنحاء الأرض ، ويرجع إلى الماضي يوم نزل الوحي على النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ :
أي ذكرى شعت هنا
لرسول الله دفاقة الشذا والحبـــــور
؟
إنـها راية الإلــه
تجلــت هي بشرى هزت جنان العصور
ومن ذكرى الماضي إلى الحاضر ،
ويهيم بروحه حول الكعبة في شوق وتعظيم :
شاقني موكب الجلال
تبدى في ظلال التهليل
والتكبير
برحاب البيت المقدس
حفت هتافات إلى العلى الكبيـر
كلهم لاجئ إليه شريـــد أرقته لوافح التفكيـــر
تتفجر لواعج الصدق عند الشاعر في
الرحاب الطاهرة فيناجيه بفؤاده في خشوع وانكسار :
طفت مالي إلى سواك سبيل رب فاقبل نجوى فؤادي الكسير
أنا يارب حائر الخطو عان أتراءى لديك خير مصيـــر
رب فاملأ بنور حبك قلبي أرتشف كوثر الصفاء النضيـر
وتجيء قصيدة
إسلامية في هذا الجزء من الديوان ، وكأنها تكملة لتبتل الشاعر ، وهي " رباه
" ([15])
:
رباه هذا لهيب شب في جسدي غرائزي منه في هول وأفكاري
يلج بي الإثم أجفوه فيدركنـي كما رد من عتاه الجن جبــار
ويختم القصيدة
بالخضوع والاستسلام ليصل إلى العروة الوثقى .
رباه إن مصيري في يديك فلا تدع زماني مقرونا بأوزاري
ونلاحظ في هذا
المجلد من الديوان الذي يضم " البسمات الملونة " و " مواكب
الذكريات " و " الأمس الضائع " أن الديوان الأخير في هذه المجموعة ،
تتوالى فيه القصائد الإسلامية دون أن يفصل بينها بقصائد غير إسلامية ، وما ندري هل
نظمت كلها في المدة التي أعقبت ديوان " مواكب الذكريات " وأن الشاعر كان
يعيش حقبة روحية خالصة وفي ظروف نفسية خاصة ، أو أنها كانت منظومة ولكن الشاعر
اختار وضعها في هذا الديوان الذي قدم له طه حسين ، وأشاد بالشعر في الحجاز ونجد ، لأنه
وجد في الديوان روحا " ومن مهد الشعر العربي ، ومهد الأمة العربية ومهد هذه
الحياة الكريمة التي صدر عنها الوحي بالقرآن الكريم فملأ الأرض هدى ونورا " ([16])
؟ الشاعر وحده يملك الإجابة .
ويخرج القرشي من
رحاب الجزيرة العربية إلى دار الخلافة الإسلامية ، في عصر الدولة العثمانية ويطوف
بأمجادها التاريخية التي تملأ وجدان المسلم الواعي ، فتجري نغمات حزينة على ماض من
المجد والفخار والبطولات .. و" في ظلال البسفور " يلج الشاعر إلى
التاريخ ، وترنحه الريى ويرجع البصر كرة أخرى ، فيرتد وهو حسير ([17]):
من عذيرى ، وكم يلج العذيـر خاطري آسر وقلبي أسيــر ؟
رنحته الرؤى ، وكم رجع الطر ف إليها فارتد وهو حسيـــر
ما أراه ؟ أتلك أطياف حلــم أم تراءى لناظري " البسفور " ؟
ويتذكر "
اسطمبول " القسطنطينية قديما ، ثم الآستانة وما فيها من ذكريات إسلامية ، تشهد
بالعظمة والقوة للإسلام :
شاده أروع وزاد عليــــه أروع صادق الجهاد غيـور
فيه من زخرف الفنون أفانيـ ـن جلاها صناعها المشهور
قد تحدى القرون رونقه الـزا هي فما بددت سناه الدهـور
المنارات في حماه مضيئــا ت وهدى الإسلام فيها ينيـر
وأعداء الإسلام في
معسكر واحد مهما اختلف الزمان والمكان ، فالحقد على الخلافة الإسلامية ، وتمزيق
شملها وتقسيم العالم الإسلامي إلى كيانات صغيرة ، وشن الحروب الصليبية والسيطرة
على بيت المقدس ، والثالوث الجديد الذي يجمع اليهودية والمسيحية والوثنية ، خلف
كتيبة متقدمة في قلب العرب ، وهي إسرائيل وما جرى منها ومن أعوانها ، وما يجري
الآن وغدا .. كل ذلك في حس شاعرنا ، يعبر عنه وعن شعور كل مسلم في ديوانه "
لن يضيع الغد " ويجسم الآلام ويبعث الآمال في قصائد كثيرة منها " أخي
" و " فدائي العروبة " و " ثأر " و " وعد بلفور
" و " ربي القدس " و " حطين " وغير ذلك مما يسمعك شجاه ،
في موسيقى حزينة باكية وحفز للهمم العالية ، لتتأسى بالمسلمين في " حطين
" ([18])
:
" حطين " واخجلتا من يوم " حطين
" واخجلتاه من الصِّيد
الميامينــــا
من " خالد " و " المثنى " في
جهادهما مِنْ " طارق " مِنْ
بنوا أساس ماضينا
وفي قصيدة "
مهد الإسراء " يقول الشاعر ([19])
:
يا إلهي ما حل بالقدس يفـــرى كل قلب ويصدع الأكبــــادا
غالها الخاسرون في وضح الصبـ ـح وكم كحلوا العيون سهــادا
يا إلهي يختال في المسجد الأقـــ ـصى يهود قد دنسوه كيـــادا
أفترضى أن يستباح حمـــــاه وهو مهد " الإسراء " جل مهـادا
انه حاشا فأنت من يمنح النصـــ ـر ويجلو الأسى إذا الخطب زادا
وشاعرنا الكبير حسن
عبد الله القرشي في شعره الذي يتصل بالقدس ، أو يتحدث عن بعض الأقطار العربية
والإسلامية يعيش الحدث بروح الشاعر المسلم ، الذي تفرض عليه أخوة الإسلام الجهاد
والتضحية في سبيل الذود عنهم والاهتمام بأمور المسلمين . وتلك رؤية اكتسبها الشاعر
من بيئته التي ألهمته الشكل والمضمون ، فخرج علينا بشعره المتميز في حلل من
الصياغة والديباجة العربية الأصيلة ، يشق على كثيرين من الشعراء الارتقاء إليها ، ومباراته
في شعره القومي والإسلامي والإنساني ، بل في تعبيره عن وجدانه وحديث نفسه ونجواها ،
ليحقق رسالة الشعر التي عناها ([20])
:
إنما الشاعر في آفاقه صيحة الحق وظل الأبد
دوحة سامقة مورقة تتحلى بالجنى والرغـد
ومنار يملأ الدنيا سنا لؤلؤيا من ضحاه الأسعد
حقا أيها الشاعر
الكبير ، إنك عبرت برقة حسك ، ومشاعرك في بيانك الساحر ، وإيمانك الزاخر ، عن
رسالة الشاعر الأصيل ، المتشرب هوى العروبة والإسلام في ديار أشرق منها الإيمان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق