الجبرتي والأدب العربي الحديث
من خلال النظرات المتأنية في كتاب "
عجائب الآثار في التراجم والأخبار " لمؤلفه المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي ،
نكتشف كثيرا من الاتجاهات التي أثرت في الحركة العلمية والأدبية في العصر الحديث
في العالم العربي والإسلامي .
وهو عبد الرحمن بن حسن بن برهان الدين بن
إبراهيم بن حسن بن نور الدين بن على شمس الدين محمد بن زين الدين عبد الرحمن
الزيلعي الجبرتي العقيلي الحنفي ([1])
ولد بالقاهرة سنة 1167 هـ ـ 1754 م وتوفي سنة 1237 هـ ـ 1822 هـ بالقاهرة بعد أن
وجد مخنوقاً بطريق شبرا في شهر رمضان ، وكان قد كف بصره بسبب حزنه على مقتل ابنه([2])
.
وتلقى الجبرتي تعليمه في رحاب الأزهر حيث
إنه المنهل الوحيد للتعليم ، ومنه نهل والده وأجداده ، وقد كان جده السابع عبد
الرحمن من الحبشة وقدم إلى مصر عن طريق البحر ، ودخل الأزهر وجاور بالرواق وتولى
مشيخته والتكلم عنطائفته ثم تزوج من مصر وولد له .. ([3])
.
وقد حدثنا الجبرتي في كتابه ، عن نشأته
حديثا مفصلا في مواضع مختلفة وربما يصلح هذا الحديث لأن يكون ترجمة ذاتية لهذا
المؤرخ الكبير ، فهو قد أجيز من كبار علماء الأزهر من أمثال محمد بن عبد ربه بن
على العزيزي الشهير بابن الست . كذلك حدثنا الجبرتي عن أطوار حياته ومواقفه وعن
إخوانه من العلماء والأدباء والشعراء والأمراء .
فمن إخوته وأصدقائه : إبراهيم محمد الغزالي
بن محمد الدادة الشرايبي ، وعبد الرحمن بن أحمد المعروف بالهلواتي ، ومصطفى
المعروف بالخشاب ، وعثمان بن محمد بن حسين الشمسي ، وحسن العطار ([4])
، وكان الأخير علما من أعلام الفكر والأدب في مصر ، وأسهم في النهضة الأدبية
الحديثة حيث أنشأ الوقائع المصرية ، وتولى مشيخة الأزهر ([5])
.
وقد سجل لنا الجبرتي عمق الصداقة بين الخشاب
والعطار وما كان يدور بينهما من طرائف أدبية وجلسات ومعاكسات تمثل ظاهرة أدبية في
حينها ، فكانا كثيرا ما يبيتان معا ويقطعان الليل بأحاديث أرق من نسيم السحر وألطف
من اتساق نظم الدرر ، وكثيرا ما كانا يتنادمان في منزل الجبرتي لما بينه وبينهما
من الصحبة والمودة ، وكانا يجدان راحتهما عنده ويطرحان التكلف وهموم النفس وعناها
ويتمثلان بقول القائل :
في
انقباض وحشمـة فـإذا رأيت أهل
الوفاء والكـرم
أرسلت
نفسي على سجيتهـا وقلت ما قلت غير
محتشم
وكانت تغلب على مجلسهما الأحاديث الأدبية
ويجولان في كل فن من فنون الأدب والتاريخ والمحاضرات ([6])
.
مواقف الجبرتي
للجبرتي ـ رحمه الله ـ مواقف تجعله في مقدمة
علماء عصره العاملين ، وبمثل هذه المواقف نهج علماء الأزهر من أحداث عصرهم ، وقد
التزم الجبرتي بهذه المواقف في حياته العملية وفي منهج كتابه وفي مضمونه ومحتواه ،
وكان لمنصب إفتاء الحنفية الذي تولاه أثر واضح في أحكامه ونزاهته وحيدته ، مما يذكرنا
في هذا المقام بالقاضي الجرجاني صاحب " الوساطة بين المتنبي وخصومه "
فابتعد الجبرتي عن نفاق ومداهنة الأمراء والوزراء ، وكان يتحرى الوقائع من الثقاة
من خلال مشاهداته " وسنورد ـ إن شاء الله تعالى ـ ما ندركه من الوقائع بحسب
الإمكان والخلو من الموانع إلى أن يأتي أمر الله ، وإن مردنا إلى الله . ولم أقصد
بجمعه خدمة ذي جاه كبير ، أو طاعة وزير وأمير ، ولم أداهن فيه دولة بنفاق أو أمدح
أو أذم مباين للأخلاق ، لميل نفساني أو غرض جسماني ، وأنا أستغفر الله من وصفي
طريقا لم أسلكه ، وتجارتي راس مال لم أملكه " ([7])
.
وسجل الجبرتي في كتابه بكل أمانة وصدق أحداث
عصره ، فغلب على كتاب الجبرتي إلى جانب الأحداث التاريخية ، الروح الأدبية التي
كان يتحلى بها أحيانا وتغلب عليه في مواقف التأليف والكتابة حين يبتعد عن سرد
الأحداث ، ونجد ذلك في مقدمته الجزء الأول من الكتاب ، وحين يترسل في وصف بعض
المواضع ، أو تشخيص بعض المواقف ، ومما نحن بصدده في هذا المجال تلك الكلمات التي تدل
على تأجج عواطفه وشدة حماسته حين يتحدث عن السلطان ، وكأنه يعنى بما يقوله ولاة
عصره " اعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدار وإنما فضيلته
بالنطق والعلم ... ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات
البدنية ، يأكل كما تأكل الأنعام ، فحقيق أن يلحق بالبهائم ، إما غمرا كثور ، أو
شرها كخنزير ، أو عقورا ككلب ، أو حقودا كجمل ، أو متكبرا كنمر ، أو ذا حيلة ومكر
كثعلب ، ويجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد ، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى "
وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " :
مثل
البهائم جهلا جل خالقهم لهم
تصاوير لم يقرن بهن حجا
ثم يقول في اسباب هلك الملوك ، وفي مقدمتها
أطراح ذوي الفضائل واصطناع ذوي الرذائل ، والاستخفاف بعظمة الناصح والاغترار بتزكية
المادح ([8])
.
وأسهب الجبرتي في توضيح موقفه من محمد على ،
حين اتضحت له أطماعه وغدره بالأمراء والعلماء والأشراف وتسلطه على الأمة ، وذلك
مدون فيما كتبه في الجزء الثالث في صفحات : 262 – 289 – 300 – 357 – 367 – 373 وفي
الجزء الرابع صفحات : 57- 58 – 65 – 66 – 72 – 85 – 101 – 103 – 109 – 135 – 138
وغير ذلك حيث وصف محمد على بأنه مخادع ومثير للفتن والفوضى ، فهو يخدع الناس
والعلماء بحسن صلاحه واستقامته وهو سبب البلاء في كل ما يدون في البلاد ، مما يجعل
الأمة تموج في مظاهرات ومعارك تؤدي إلى سقوط الضحايا ، ووصل محمد على بمكره وخداعه
للعلماء والأشراف إلى ولاية مصر ثم تنكر لهم وللشعب كله .
أما حديث الجرتي عن أولاد محمد على فهو حديث
أشد وأنكى ، وخاصة عن إبراهيم وظلمه للمواطنين في صعيد مصر حين نصب أميرا عليهم
" ثم سافر إلى الصعيد يتمم ما بقى عليه لأهله من العذاب الشديد ، فإنه فعل
بهم فعل التتار ... " ([9])
وعن إسماعيل بن محمد على يقول " وابن الباشا
المذكور ولد مراهق ، صغير يسمى إسماعيل " ([10])
.
ومن المواقف الواضحه في حياة الجبرتي موقفه
من محاربة الدعوة السلفية في الحجاز ، وهو موقف قد لا يعرفه الكثيرون من الناس
ونحاول بسط القول فيه ، لأنه يكشف عن شجاعة في الرأي ، وقوة في العقيدة ووقوف أمام
جبروت والي مصر والخليفة العثماني الذي ألح على محمد على في القيام بهذه الحرب ضد
حركة محمد بن عبد الوهاب .
كان الجبرتي ـ رحمه الله ـ متعاطفا مع دعوة
محمد بن عبد الوهاب ، بعد أن اطلع على أهدافها ومقاصدها ، ومن هنا كان موقفه من
أجل الحق وفي سبيل العقيدة ، ولكن السلطة لا تقدر هذه المواقف ، وإنما نظرت إليها
على أنها معارضة ومنازعة لأولي الأمر ، وذلك على الرغم من قيامها بهذه الحرب دون
رغبة أو استعداد .
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة دراسات منصفة
تقول : إن محمد على لم يكن راغبا في غزو الحجاز ، بسبب الظروف الداخلية في مصر ،
وأنه ظل يماطل الدولة العثمانية خمس سنوات ، وعندما هم بالتوجه إلى الحجاز لم تكن
الحملة كلها من الجنود المصريين ، وإنما أكثرها من الضباط والجنود الذين يعتمد
عليهم محمد على ، ويثق فيهم ، فأدخل " في عداد ضباطها بعض ضباطه الألبانيين
الذين كان يخشى منهم على نفسه وأحلامه الواسعة ، كما ضم إلى حاشيته بعض المرتزقة
الأوروبيين الذين خلفتهم حملة نابليون بونابرت على مصر ، ليجعل منهم مساعدين لابنه
طوسون ،وأفاد من معظم البلاد العربية والإسلامية التي كانت خاضعة للإمبراطورية
العثمانية ، فأخذ منها قوات اشتركت مع القوات المصرية ، وكان من بينها خيالة
عراقيون ، ومقاتلون سودانيون ومغاربة وشراكسة بالإضافة إلى البدو ، في حين كان
سلاح الحملة في معظمه سلاحا فرنسيا ، وكانت المدفعية الفرنسية هي أحدث أنواع هذه
الحملة " ([11])
.
وقد سجل الجبرتي بالتفصيل تحركات الحملة على
الحجاز وأوضح وجهة نظره الممثلة لوجهة نظر علماء الأزهر الشريف تجاه الحركة
الإصلاحية التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب ([12])
، وثقتهم في سلامة معتقدها . وأدرك الجبرتي ـ مبكرا ـ أن الغرب اشترك بصورة ظاهرة
أو خفية في القضاء عليها ، لأنه لا يريد بالإسلام وأهله خيرا " لقد كان محمد
بن عبد الوهاب ومن نحا نحوه يرون أن ضعف المسلمين اليوم وسقوط نفسيتهم ليس له من
سبب إلا العقيدة ، فقد كانت العقيدة الإسلامية في أول عهدها صافية نقية من أي شرك
، وكانت لا إله إلا الله معناها السمو بالنفس عن الأحجار والأوثان ، وعبادة
العظماء وعدم الخوف من الموت في سبيل الحق " ([13])
.
ولا شك أن هذه الرؤية كانت واضحة أمام الجبرتي
، ولا تخفى على أمثاله كما تبدو لنا من كتابه الذي سنعرض بعض نصوصه ، ولعلها تقطع
كل شك فيما يتصل بتعاطفه وتأييده للدعوة السلفية في الحجاز .
وأول حديث للجبرتي عن هذه الدعوة ـ فيما
نعلم ـ جاء فيما دونه عن أحداث شهر صفر سنة 1218 هـ عقب عودة أمير الحاج بالمحمل
المصري حيث " حضر صحبة الحجاج كثير من أهل مكة ، ولغط الناس في خبر الوهابي
واختلفوا فيه فمنهم من يجعله خارجيا وكافرا ، وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم
، ومنهم من يقول بخلاف ذلك لخلو غرضه وأرسل إلى شيخ الركب المغربي كتابا ومعه
أوراقا تتضمن دعوته وعقيدته " ([14])
وظل الجبرتي يتابع هذه الدعوة ويستقصي أخبارها عن طريق المصادر الموثوق بها ، حتى
وفق في عرض صورة الكتاب المرسل مع شيخ الركب المغربي ، وسجل نصه في تاريخه ، وقد
جاء فيه " بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين ، الحمد لله نحمده ونستعينه
ونستغفره .. " ومنه " وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من
الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ، ببناء القباب عليها وإسراجها والصلاة عندها واتخاذها
أعيادا وجعل السدنة والنذور لها ، فكل ذلك من حوداث الأمور التي أخبر بها النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ أمته وحذر منها .. ألخ " ([15])
.
وبمقارنة ما جاء في تاريخ الجبرتي برسائل
محمد بن عبد الوهاب ، نجد نصها ضمن الرسائل التي بعث بها إلى أهل المغرب ([16])،
وتتجلى شجاعة الجبرتي في عرض هذه الرسالة بكاملها في أمانة وصدق ، ولم يكتف بذلك
بل علق عليها بقولها : " أقول إن كان كذلك ـ يعني ما جاء في الكتاب المرسل مع
شيخ الركب المغربي ، وفيه تفصيل ما يتعلق بالدعوة السلفية ـ فهذا ما ندين الله به
نحن أيضا ، وهو خلاصة لباب التوحيد ، وما علينا من المارقين والمتعصبين ، وقد بسط
الكلام في ذلك ابن القيم في كتابة إغاثة اللهفان ، والحافظ المقريزي في تجريد
التوحيد ، والإمام البوسي في شرح الكبرى ، وشرح الحكم لابن عباد ، وكتاب جمع
الفضائل وجمع الرذائل ، وكتاب مصايد الشيطان ، وغير ذلك " ([17])
.
ولعل ذلك يكشف عن مدى قوة تأييد الجبرتي
للدعوة السلفية ، ووصف المخالفين لها " بالمارقين والمتعصبين " ونعتقد
أن لديه كثيرا من الأوصاف والنعوت للذين يحاربونها ، كما يتضح لنا شدة إيمانه
بمبادئها من خلال استحضار الحجج وسوق الأدلة من أمهات الكتب والمراجع التي عرضها
على أنها مستمدة من منابع الإسلام الأولى .
وتهكم الجبرتي من الذين يجردون الحملة
لحربها ، وسفه أقوالهم ، وكشف عن خداعهم للأمة في دعواهم بأنها حرب مقدسة ، وأنها
من أعظم ما تتوجه به الهمم الإسلامية ، وكشف عن التعاون بين الشريف غالب ومحمد على
من أجل القضاء على الحركة الإصلاحية ، وكل منهما ينافق الآخر ، بينما الشريف يداهن
القائمين على أمر الدعوة لخوفه منهم وعدم قدرته على الوقوف أمامهم ، فكان يظهر
الامتثال ويبرم العقود والعهود على ترك الظلم واجتناب البدع ونحو ذلك ، لكنه يميل
باطنا إلى العثمانيين لكونه على طريقتهم ومذاهبهم ([18])
.
ويرسم لنا الجبرتي صورة رائعة لنهاية النفاق
والخداع القائم بين محمد على والشريف غالب ، حيث ذهب الأخير مع طوسون بن محمد على
إلى مكة المكرمة ، وفي جوف الكعبة يتعاهدان على المصادقة والمسالمة ، وأن لا يخون
أحدهما الآخر ، ويذهب الشريف في نفر قليل من أتباعه إلى طوسون فيغدر به ويقبض عليه
، بحجة أنه مطلوب للدولة العثمانية ، ويجبر على ركوب البحر إلى مصر وتضرب مدافع
القلعة إعلاما بوصوله وإكراما ، على حد قوله ـ تعالى ـ " ذق إنك أنت العزيز
الكريم " ([19])
.
ما
الذي يقوله نقاد الأدب عن هذا الأسلوب الذي كتب به الجبرتي وقائع الأحداث ؟ وما
الذي فيه من البلاغة وتصوير الحقيقة وحسن الاختيار والتشبيه ؟ وكيف يحللون عاطفة
المؤرخ حينما ينحاز إلى الحق المقتنع به ؟ أو يؤيد رأيا يؤمن به ؟
ونقف مع الجبرتي في سخريته من الجيش الذاهب
إلى الجهاد المقدس ، للقضاء على الوهابية في البلاد التي هبط فيها الوحي .
تخرج العساكر من القاهرة في رمضان ، وهم
خليط من جنسيات متعددة يأكلون ويشربون في نهار رمضان ، قبل أن يتحركوا من المدينة
، ويمرون بالأسواق ، يشربون الدخان من غير احتشام ولا حياء ، ويجمعون الجم الكثير
من النساء البغايا والحشاشين والغوازي والرقاصين والفساق ، يأكلون الحشيش ويشربون
المسكرات ويزنون ويلوطون في رمضان وهم يعتزمون الجهاد وتطهير المقدسات ([20])
.
أما صورة عدوهم الذي يريدون جهاده ، فهي
تبدو من سيماء الوفد الذي جاء إلى القاهرة للتفاوض ، وقد اجتمع الجبرتي باثنين من
الوفد ، ورأى فيهما نهج السلف الصالح ، يقبلان على شراء الكتب كتفسير الخازن
والكشاف والبغوي والكتب الستة وغير ذلك ، ولمس فيهما أنساً وطلاقة لسان واطلاعا
وتضلعا ومعرفة بالأخبار والنوادر ، ولهما من التواضع وتهذيب الأخلاق ، وحسن الأدب
في الخطاب ، والتفقه في الدين ، واستحضار الفروع الفقهية ، واختلاف المذاهب فيها ،
ما يفوق الوصف ، واسم أحدهما عبد الله والآخر عبد العزيز ، وهوالأكبر حسا ومعنى
" ([21])
.
وصورة أخرى من صور رجال الدعوة السلفية هي
صورة عبد الله بن سعودحين التقى بمحمد على في القاهرة ، وأعجب محمد علي من رده
المتشبع بالإيمان ورباطة الجأش ، على الرغم مما هو مقدم عليه ، ويرحل إلى تركيا مع
بعض أتباعه ليقتل هناك .
ويعدهم الجبرتي من الشهداء ([22])
وينكر هذه الفعلة وما تلاها من تنكيل بأسرهم ، ويرى أن هذه الأفعال إنما يجب أن
تكون لمخالفي دعوتهم .
ولا شك أن هذه الأقوال التي كان يدونها في
مذكرات قد نقلت إلى من يعنيهم الأمر ، فدبروا له تلك القتلة الشنيعة التي لقيها مع
كتبه ودفاتره .
الجبرتي والأدب
اهتم الجبرتي بالحركة الأدبية والعلمية
والفكرية في العالم العربي والإسلامي ، ولا أكون مبالغاً إذا قلت إن الصلة الأدبية
والفكرية بين مصر وغيرها من الدول العربية كانت قوية جدا قبيل العصر الحديث وفي
بدايته ، بل تكاد تزيد عن قوتها في أيامنا هذه التي تقدمت فيها وسائل المواصلات
والاتصالات ، فقد جمع كتاب الجبرتي أخبار العلماء والأدباء في دقة وتفصيل ، وحشد
فيه الكثير من النصوص النثرية والشعرية التي لم تطبع في كتب حتى يومنا هذا ، ومن
ذلك على سبيل المثال لا الحصر ، شعر جعفر البيتي في الحجاز وغيره ، كما سنرى إن
شاء الله في هذا البحث الذي سيعطي لمحة عن موقف الجبرتي من الحركة الأدبية في مصر
وجزيرة العرب وبعض البلاد العربية الأخرى .
تضمن كتاب " عجائب الآثار في التراجم
والأخبار " نخبة ممتازة ، ومجموعة كبيرة من الأدب الرفيع قديمه وحديثه ،
يتمثل في أبيات شعرية من الحكم البليغة التي تجري مجرى الأمثال ، يستخدمها المؤلف
في المواقف التي تقتضيها وتنسجم مع الأحداث ، وأكثر هذه الأشعار من محفوظ الجبرتي
، وتكشف عن ذوقه في اختيارها ومقدرته في وضعها في مكانها من المناسبة التي سيقت
لأجلها .
ومما يتمثله في مقام مطالعة التاريخ
والاطلاع على وقائعه قول القائل ([23]):
إذا
عرف الإنسان أخبار من مضـى توهمته قد
عاش من أول الدهـــر
وتحسبه
قد عاش آخر دهــــره إلى الحشر
إن أبقى الجميل من الذكر
فكن
عالما أخبار من عاش وانقضى وكن ذا نوال
واغتنم آخر العمـــر
وفي موضع آخر يتمثل قول الشاعر ([24])
:
كمن
يحدو وليس له بعيـــــر ومن
يرعى وليس له ســـــوام
ومن
يسقى وقهوته ســــراب ومن يدعو وليس له طعـــــام
وفي موطن آخر قول القائل ([25])
:
ومن
يربط الكلب العقور ببابــه فعقر جميع
الناس من رابط الكلــب
ولقد صدق من قال ([26])
:
يا
أيها الملك الـــــــذي بصلاحه
صلح الجميـــــــع
أنت
الزمان فإن عدلـــــت فكله
أبدا ربيـــــــــــع
وقول الآخر :
رأيت
الدهر مختلفا يــــدور فلا
حزن يدوم ولا ســــــرور
وشيدت
الملوك به قصـورا فما بقى الملوك ولا
القصـــــــور
وقال الشاعر :
إذا
أجبتك خلال امـــرئ فكنه تكن مثل
من يعجبــــــــك
فليس
على المجد والمكرمات إذا جئتها
حاجب يحجبــــــــك
ومما ينقله في معرض حديثه العابر مقطوعة
طويلة من قصيدة للصفي الحلي ([27])
الناصر السلطان من خضعت له كل الملوك مشارقا ومغاربــــــا
ملك يرى تعب المكارم راحـة ويعد راحات الفراغ متاعبــــــا .. ألخ
ثم يقول الجبرتي " وهذا ما حضرني منها " :
وفي موطن آخر يقول : فكان كما قيل ([28])
:
إذا
لم يكن عون من الله للفتى فأول
ما يجني عليه اجتهـــــاده
أو كما قيل في المعنى :
فلا
تمدن للعلياء منك يــدا حتى تقول
لك العلياء هات يـــدك
وعن الخلافات التي تنتج عنها الأحداث
الداخلية يسوق قول القائل ([29])
:
إن
القلوب إذا تنافر ودهــا مثل
الزجاجة كسرها لا يجــــبر
وفي مجال الاستشهاد لكرم الأخلاق يتمثل
الجبرتي شعراً جاء فيه ([30])
:
خلق
كماء المزن طيب مذاقه والروضة
الغناء طيب نسيــــم
كالغيث
إلا أن وجود يمينـه أبدا وجود الغيث
غير مقيـــــم
كالدهر لكن فيه حلم واسـع عمن
جنى والدهر غير حليــــم
كالسيف إلا أنه ذو رحمـة والسيف
قاسي القلب غير رحيــم
وكما قال القائل ([31])
:
ذهب
الذين يعاش في أكنافهم وبقيت
في خلف كجلد الأجــرب
ويقول الجبرتي : وكثيرا ما أتذكر قول القائل
:
سقى
الله عيشا في ربوعهـــم حلا
ذكره في الذوق وهو مــدام
ليال
لنا في مصر وصل كأنـها على وجنة
الدهر الممنع شـــام
يحيى
حمامي من حنيني ولوعتي إذا ناح فوق الأيكتين
حمــــام
كما قال الشاعر ([32])
:
وإخوان
تخذتهمو دروعا فكانوها ولكن للأعـــــادي
وخلتهمو
سهاما صائبات فكانوها ولكن في فــــؤادي
وقالوا
قد صفت منا قلوب لقد صدقوا ولكن مــن
ودادي
وقالوا
قد سعينا كل يـوم لقد صدقوا ولكن
في فســادي
وفي موطن آخر يتمثل مؤرخنا الكبير قول أبي
اسحق التلمساني :
الغدر
في الناس سيمة سلفت قد طال بين الورى
تصرفــها
ما
كل من قد سرت له نعـم منك يرى قدرها
ويعرفـــها
بل
ربما أعقب الجزاء بـها مضرة عز عنك
مصرفـــها
أما
ترى الشمس كيف تعطف بالنور على البدر
وهو يكسفهـا
وقول القائل ([33])
:
وما
الدهر في حال السكون بساكن ولكنه
مستجمع لوثــــوب
وكما قيل ([34])
:
وكم
ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك
كالبكـــــاء
ويتمثل قول القائل :
وإذا
السعادة لاحظتك عيونها نم
فالمخاوف كلهن أمـــان
وللجبرتي في هذا المجال باع طويل مما يدل
على كثرة مطالعاته في أمهات الكتب الأدبية ودواوين الشعراء القدماء والمعاصرين ،
إلى جانب ثقافته الدينية وخاصة في فقه الحنفية حتى تولى منصب الإفتاء ، وكان
متمكنا من دراسة التاريخ وإحاطته بأكثر مؤلفاته ومناهل الثقافة العامة .
صور من النقد الأدبي عند الجبرتي
قلنا إن في كتاب " عجائب الآثار في
التراجم والأخبار " كمّاً هائلاً من النصوص الأدبية التي تجعلنا نكتب بحثنا
هذا مطمئنين إلى رسوخ قدم الجبرتي في العناية بالأدب وتاريخه ([35])
.
والنظر في النصوص الأدبية التي عرضها المؤلف
في كتابه يكشف عن ذوقه الأدبي فكما قيل : اختيار المرء جزء من عقله ، ومع ذلك نلحظ
لمحات نقدية كثيرة للرجل في مواطن متعددة تكشف عن ذوقه الأدبي ، وحسن تقويمه في
ضوء فهمه لضروب البلاغة وفن التعبير .
ونعرض في هذا البحث المحدود نماذج يسيرة لعلها
توضح ما نرمي إليه .
استشهد الجبرتي بقطعة من قصيدة طويلة للصفي
الحلي ، وقد أشرنا إليها ، وأنهاها بالبيتين التاليين :
أصلحت
بين المسلمين بهمــة تذر
الأجانب بالوداد أقاربـا
ووهبتهم
زمن الأمان فمن رأى ملكا يكون له الزمان
مواهبا
وعقب الجبرتي على ذلك " وهذا ما حضرني
منها ، ومن أحسن ما قيل في مرائيه هذان البيتان :
قلت
لبدر الأفق لما بـــدا ووجهه
منكسف باســـر
ما
لك لا تسفر عن بهجــة فقال مات
الملك الناصــر ([36])
ولا شك أن رؤيته واضحه لما في البيتين من
تصوير بارع وخيال بديع وطريف ، يرتفع بمقام السلطان العادل بين المسلمين إلى هذا
الحد الذي صوره الشاعر .
ومن مواقف الجبرتي النقدية وقوفه أمام قصائد
متعددة في مدح الوزير عبد الله الكبورلي الذي كان واليا على مصر عام 1143 هـ ، وقال الجبرتي " وللشيخ عبد الله
الشبراوي في مدحه قصائد طنانة ، ومن شعره ([37])
:
دموعك
أخجلت نوه الثريـا فحى بوبلها ربعا
وحيــــا
بشوقك
إن يهب نسيم نجـد فيروى عن أهيل الحلي
ريــا
خيالك
من نسيم ظل يهـدي إلى من في الحمى
أرج الحميـا .. الخ
وانشدني السيد الأديب الفاضل خليل البغدادي
له أيضا ، وقد أحسن جدا ، قوله :
أرى
أيدينا نالت غنى بعد فترة لا لام
قوم في أخس زمــان
فضنت
بما نالته شل بنانــها وإن
رمت جدواها فشل بناني
وفي معرض حديث الجبرتي عن الأديب الشاعر
محمد بن رضوان السيوطي الشهير بابن الصلاحي المتوفى سنة 1180 هـ قوله "
وذيلها بقصيدة سماها الدرة البحرية والقلادة النحرية ، وهي طويلة تزيد على
الثمانين بيتا ، ومن غرر أشعاره قوله :
هات
لي قهوة الشفا من ضفاهك واسقنيها
على فخامة جاهــك .. ألخ
ويقف أمام قصيدة الشاعر التي مطلعها :
حث
نجب الكؤوس قبل الصباح واسقني من
يديك صرف الراح
واحد
لي حاد ي المطى إليـها في غدو
مبـــادرا أو رواح .. ألخ
ثم يقول الجبرتي : " قلت ومطلع هذه
القصيدة مأخوذ من مطلع قصيدة خمرية للشريف أحمد بن مسعود الحسنى ، أحد أشراف مكة ،
وهي : " حث قبل الصباح نجب الكؤس " إلا أنه قدم وآخر " ([38])
.
وهذا يدلنا على عمق قراءات الجبرتي في الشعر
العربي في عصره ، ووقوفه على النتاج الأدبي لشعراء العروبة خارج مصر .
وعن الشاعر المذكور يقول الجبرتي "
ووجدت بخطه ما نصه وقلت اختراعا لهذا المعنى ، ولا أعلم أني سبقت إليه ([39]):
جزى
الله أنفاس النسيم فإنــها أتعلم
سرا في النفوس لطيفـا
أسرت
إلى الإعصار عند قدومنا حديثا فمدت للسلام
كفوفــا
وهزت
سرورا بالتداني معاطفا وأهدت لنا منها شذا
وقطوفـا
وله أيضا في الاكتفاء وقد أحسن :
بالله
سلا عن حال قلبي وسلا إن كان
صبا إلى سواكم وسلا
والبعد
كوى الحشا بنار وسلا يا نار كوني
اليوم بردا وسلا
ويعلق الجبرتي على شاعر أرخ لبعض الإنشاءات
الفخمة الضخمة في الجامع الأزهر فيقول : " وأرخ بعضهم في ذلك بهذه الأبيات
الركيكة :
تبارك
الله باب الأزهر انفتحا وعاد
أحسن ما كان وانصلحـا
تقر
عينا إذا شاهدت بهجتـه بإخلاص
بانيه للعلماء والصلحا .. ألخ
وحين دخل الفرنسيون مصر ، كتبوا إعلانات وألصقوها
على المباني التي تقع في أول الشوارع والحارات وأبواب المساجد ، ويعلق الجبرتي على
ذلك بقوله " وشرطوا في ضمنه شروطا أخرى بتعبيرات سخيفة يفهم منها المراد بعد
التأمل الكثير ، لعدم معرفتهم بقوانين التراكيب العربية " .
ويعلق ايضا على " فرمان " الشروط
التي يريدها الفرنسيون وقرأها المترجم " قلت ولم يعجبني في هذا التركيب إلا
قوله المفعمة جهلا وغباؤة بعد قوله : اشتاقت أنفسهم " .
ونستطيع أن نقف على عشرات من العبارات
النقدية التي وردت عند ترجمته للعلماء والأدباء والشعراء مثل قوله عن أبي عبد الله
محمد بن عبد الباقي الزرقاني ([40])
" مع كمال المشاركة ، وفصاحة العبارة " وعن أحمد المنفلوطي ([41])
: " رقيق العبارة " وعن أبي العباس الخليفي ([42])
: " بيانيا وحسن التعبير " وفي ترجمته لأدباء عصره يقول عنه ([43])
: " العمدة المنتقد الفاضل الشاعر البليغ الصالح العفيف ، حسن البدري الحجازي
الأزهري ، وكان فصيحا مفوها متكلما منتقدا على أهل عصره وأبناء مصره " وقوله
في ترجمة أخرى ([44])
المفوه الكاتب المنشئ حسين بن محمد المعروف بدرب شمس " وقوله عن آخر ([45]) " الخطيب المرتجل حسن عبد الرحمن محمد حمادة
المنزلاوي " . وتكلم الجبرتي عن شاعر يحكي بأدبه سنا الملك ، أو ابن العفيف
محمد بن الحسن بن عبد الرحمن الطيب " 1164 – 1205 هـ " فقال ([46])
" وتعلق بالعروض فبرع فيه ، ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه
فيه مالا يلزم " .
نماذج من إنشاء الجبرتي
كان الأسلوب العربي في العصر التركي تغلب
عليه اللهجة العامة التي تجمع بين التركية والعامية ، وقد تطرق هذا الأسلوب إلى
لغة الكتابة والتأليف ، ورأينا بعض المؤلفات التي تكتب من واقع الحياة الاجتماعية
والحياة اليومية تحتوي على الكثير من الألفاظ الدارجة ، للأسماء والمسميات في دنيا
الناس ، ونجد ذلك في كتاب " عجائب الآثار في التراجم والأخبار " للجبرتي
، ولكن المؤلف إذا رجع إلى ثقافته العربية والإسلامية ، وارتفع عن وصف الحياة
الواقعية فقد يسلم أسلوبه ، فها هو يصف الحالة في مصر سنة 1198 هـ فيرتفع بأسلوبه
إلى حد السلامة ، مما كان يشيع في عصره يقول في وصف هذه الحالة " وانقضت هذه
السنة كالتي قبلها في الشدة والغلاء ، وقصور النيل والفتن المستمرة ، وتواتر
المصادرات والمظالم من الأمراء ، وانتشار أتباعهم في النواحي لجبي الأموال من
القرى والبلدان ، وإحداث أنواع المظالم ويسمونها مال الجهات .. حتى أهلكوا
الفلاحين وضاق ذرعهم واشتد كربهم " ([47])
ويصفه القتال بين المصريين والفرنسيين فيقول ([48])
: " ولما قرب طابور الفرنسيين من متاريس مراد " بيك " ترامى
الفريقان بالمدافع ، وكذلك العساكر المحاربون في البحرية وحضر عدة وافرة ([49])
من عساكر الأرنؤد من دمياط وانضموا إلى المشاة وقاتلوا معهم في المتاريس ، وسمع
عسكر البر الشرقي في القتال ضجيج العامة والغوغاء من الرعية ، واخلاط الناس
بالصياح ورفع الأصوات بقولهم : يارب ويالطيف ، ويارجال الله ، ونحو ذلك ، وكأنهم
يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم .. " ويعلق على المهازل التي كانت تحدث يوم
وفاء النيل ، فيصف ما حدث في سنة 1214 هـ ، ونشعر في تعليقه شدة الإنكار النابع من
فهمه للإسلام ([50])
" خرج النصارى من القبطة والشوام والأروام ، وتأهبوا للخلاعة والقصف والتفرج
واللهو والطرب ، وأكثروا المراكب ونزلوا فيها وصحبتهم الآلات والمغاني ، وخرجوا في
تلك الليلة عن طورهم ورفضوا الحشمة ، وسلكوا مسلك الأمراء سابقا من النزول في
المراكب الكثيرة المقاديف ، وصحبتهم نساؤهم .. وتجاهروا بكل قبيح من الضحك
والسخرية والكفريات ومحاكاة المسلمين .. بدون أن ينكر أحد من الحكام أو غيرهم ..
إذا
كان رب الدار بالدف ضاربا فشيمة
أهل الدار كلهم الرقص
نصوص من النثر الفني تمثل عصر الجبرتي
عرض الجبرتي في كتابه مجموعة كبيرة من
النصوص النثرية لأدباء وكتاب عصره في العالم العربي ، وتلك مساهمة منه في التأريخ
للأدب واحتفاظه بكثير من الوثائق الأدبية التي يرجع إليه الفضل في تسجيلها .
ومن النصوص التي تمثل الصنعة المتكلفة
الممقوته في عصره ما كتبه عبد الله بن أحمد المعروف باللبان " توفي سنة 1198
هـ " على المقامة التصحيفية لعبد الله الإدكاوي ([51])
" أنهى أبهى ، طرف ظرف ، لذت لدى ، خير حبر ، مسند مشيد أبهج أنهج ، طريق
طريف ، فنه فيه ، حلا جلا ، يراعه براعه ، أوحد أوجد ، زينه رتبه ، أدب أدت ، غلو
علو ، شأنه ببيانه .. ألخ " .
ومن النماذج الأدبية التي تمثل صورة رائعة
لأدب هذا العصر نص من رسالة جعفر البيتي " توفي 1182 هـ " يقول فيه ([52])
" إن أبدع براعة يستهل بها الوداد ، ويدبج محاسنها كمال الاتحاد ، وأجلى مذهب
تسرع إلى معقله الهمم ، وأحلى مشرب يكرع من منهله القلم ، عرائس تحيات تزفها مواشط
النسيم ، وتحفها أتراب التكريم والتسليم ، بختام من مسك ومزاج من تسنيم ، فتسفر
بها أسفار المحبة ، مع سفير أكيد الصحبة ، محمولة على موضع الإخلاص تالية لمقدم
مزيد الاختصاص :
قرنتهن
تحيات يعززهـــــا منى السلام ووتر الحمد يشفعها
تؤم
مرتبع الآمال منتجع الإفضال بل مشرق النعمي
ومطلعهــا
مختار
رأى العلا من راقبت قدرا به
العناية حتى جل موقعهــا
فقيل
ذلك فضل الله من بـــه ونعمة
الله يدري أين موضعها .. ألخ
ونستطيع أن نعرض الكثير من النصوص النثرية
الفنية ، وغير الفنية التي تمثل الاتجاه الأدبي في عصر الجبرتي في أغلب الأقطار
العربية وفي مصر خاصة ، ولكني أكتفي بما تقدم ([53])
.
الشعر في عهد الجبرتي
لا نبالغ إذا قلنا إن كتاب الجبرتي سجل حافل
للشعر والشعراء في عصره ، ونزعم أن كثيرا من الأشعار التي أوردها الجبرتي لمختلف
الشعراء في مصر والعالم العربي ، قد ضاع بعضها أو لم تطبع في دواوين حتى يومنا هذا
، وأن بعض هؤلاء الشعراء قد أهملتهم الكتب المتخصصة كالأعلام للزركلي ، ومعجم
المؤلفين لكحالة ، حيث وجدت عناء في الموقوف على هؤلاء الأعلام ومؤلفاتهم في هذين
المرجعين ، حين أردت كتابة بحث عن الجبرتي والحركة العلمية في جزيرة العرب .
ونعرض هنا نماذج قليلة وموجزة جدا لبعض شعر
الشعراء ، ممن ورد ذكرهم في كتاب الجبرتي ، حتى ندلل على ما ذهبنا إليه في هذا
البحث ، حول أثره في الأدب العربي الحديث .
من هؤلاء أحمد الدلنجاوي شاعر وقته ، وله
ديوان شعر في مجلد " وتوفي سنة 1119 هـ تقريبا " ([54])
وله شعر منه قوله :
تمر يخص وشاتــه برضا ومغرمه بسخـط
عاتبته بلطــــف وسألته حكما بضبــط
فأجابني وهو الـذي طرق الهداية ليس يخطى
لست
الإمام وإنمـا أنا قاسم والله معطــى
([55])
واستدعى عبد الله الشبراوي " ولد 1092
هـ تقريبا " المولى عبد الغفور تابع الوزير عبد الله ، وكتب له ([56])
:
محبك
يا شقيق الروح يرجو مجيئك
للتآنس والسرور
ثم يقول :
فإن تك قد أخذت اليوم إذنا من المولى الوزير ابن الوزير
فخير البر عاجلــه وإلا فخذ إذنا وعجل بالحضــور
ولا تترك محبك في انتظار فما يقوى على البعد الكبيــر
وقل للفاضل المولى على وصاحبه الشهاب المستنيــر
محبكما لمنزله دعانــا ثلاثتنا هلما بالبكــــــور
وإني
أرتجي منكم جميعا إجابة ما يؤمله
ضميـــري
وقال الأديب الماهر الناظم الناثر عبد الله
بن عبد الله بن سلامة الإدكاري المصري " 1104 – 1184 هـ " ([57])
:
عيد بكم يزهو سرورا ويزيد إشراقا ونـورا
فأدامكم رب العــلا لمعاقل الإسلام سورا
وقال الشاعر محمد بن رضوان السيوطي الشهير
بابن الصلاحي :
بثا عن النائي الغريب جملا من الخبر العجيب
واستوقف الركبان ما بين الأراكة والكثيــب
واستشهد القلب الذي قد ضاع بين القلــوب
سلبته يوم الدوحتين طليعة لرشا الربيــب .. ألخ
وتحدث الجبرتي بإفاضة عن الشاعر الحجازي
جعفر البيتي ، وربما كانت كتابته من أحسن ما كتب عنه ، وقد تكون المصدر الوحيد لكل
من كتبوا عنه ، وأشار إلى ديوانه الذي لم يطبع حتى الآن ، ومن حسنات الجبرتي عرضه
لكثير من القصائد والنماذج الشعرية التي رأت النور من خلال تاريخه أومن خلال ما
نشرته " مجلة المنهل " من مخطوطات ديوانه .
ومما جاء في كتاب الجبرتي من شعر جعفر
البيتي قوله ([58])
:
حيى
بكاسك لي مع نسمة السحـر وسلسلي الراح من نحري إلى سحري
حيى
براحك ياروحي على جسدي أفديك بالنفس
يا سمعي ويا بصـري
هبي
بشمسك في ظل الشباب وفي ظل الغصون
وفي ظل من الشعــر
هبي
وشقي قميص الغي من قبـل فالراح شقت قميص الليل من دبــر
وقال محمد بن محمد الغلاتي الكثناوي
الدائرانكوي السوداني ([59])
:
إن
الأمور إذا ما الله يسرها أتتك
من حيث لا ترجو وتحتسب
وكل
ما لم يقدره الإله فمـا يفيد حرص الفتى فيه ولا النصب
ثق
بالإله ولا تركن إلى أحد فالله
أكرم من يرجى ويرتقــب
ومن كلامه :
طلبت
المستقر بكل أرض فلم ار لي بأرض
مستقرا
تبعت
مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت
لكنت حرا
وعرض الجبرتي شعر الشعراء من الشام والعراق
واليمن والمغرب وتونس والجزائر وغير ذلك ([60])
مما يضيق المقام بذكرهم في هذا البحث المختصر .
التراجم
كان الجبرتي يعرف لكل علم من أعلام عصره
تعريفا شاملا وشافيا ، عن مولده ونشأته وتعليمه وثقافته ، وضروب المعرفة عنده ، ومؤلفاته
ومجالسه الأدبية ، وما له من نوادر وطرائف أو غير ذلك ، في صبر وقوة احتمال في
الاعتماد على الأخبار الصحيحة الموثوق بها " وسنورد ـ إن شاء الله تعالى ـ ما
ندركه من الوقائع بحسب الإمكان والخلو من الموانع ... على سبيل الإجمال بحسب
الإمكان ، فإني لم أعثر على شيء مدونا في ذلك إلا ما حصلته من وفياتهم فقط وما
وعيته في ذهني واستنبطته من بعض أسانيدهم وإجازات أشياخهم على حسب الطاقة " ([61])
.
وتجدر الإشارة إلى أن الجبرتي في حديثه عن
الأدباء والشعراء ، كان يذكر بعض النصوص التي يرى تميزها عن غيرها " ومما
انتقيته من مختار أقواله قوله ([62])
:
وليل
نامت الرقباء فيــه قد أمنوا الوصال لطول هجري
وزار
معذبي من دون وعد ولم يك وصله مني بنكـــر
فقمت
لملعب الهميان أخطو لأهصر غصنه من
دون صبر
فلم
تر مقلتي إلا وشاحــا تراءى حائلا من دون خصـر
ثم يقول : وله هذا المعنى الذي لم يسبق إليه
:
يقولون
لي لما بدا العارض الذي به غيض ماء الحسن
من وردة الخد.. ألخ
وفي ترجمته لأبي الفيض السيد محمد بن محمد
بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي " 1145 – 1205 هـ
" يذكر له مجموعة نادرة في فن الرثاء الذي قاله في زوجته ، ومنه قوله ([63])
:
اعاذل
من يرزأ كرزئي لا يزل كئيبا ويزهد
بعده في العواقـب
أصابت
يد البين المشت شمائلي وحاقت
نظامي عاديات النوائب .. ألخ
وأخذ الجبرتي يستطرد فيما فعله الشاعر بعد
وفاة زوجته بسبب شدة حزنه عليها ، حتى اشتهر به بين أترابه ومعاصريه ، فعند وفاتها
في سنة 1196 هـ دفنها " وعمل على قبرها مقاما ومقصورة وستورا وفرشا وقناديل ،
ولازم قبرها أياما كثيرة ، وتجمع عنده الناس والقراء والمنشدون ، ويعمل لهم
الأطعمة والثريد " والكسكسو " والقهوة والشربات .. " وفيها يقول :
خليلي
ما للأنس أضحى مقطعا وما لفؤادي
لا يزال مروعا .. ألخ
وقال في قصيدة أخرى :
يقولون لا
تبكي زبيدة واتئـــد وسل هموم
النفس بالذكر والصبر
وتأتي لي
الأشجان من كل وجهة بمختلف الأحزان
بالهم والفكــر
وهل لي تسل
من فراق حبيبــة لها الحث الأعلى بيشكر من مصر
أبي الدمع
إلا أن يعاهد أعينــي بمحجرها
والقدر يجري إلى القدر
فاما
تروني لا تزال مدامعــي لدى
ذكرها تجري إلى آخر العمر
ويترجم الجبرتي للشاعر والكاتب العالم صاحب
المؤلفات الكثيرة في مختلف المعارف : محمد ن على الصبان الشافعي " توفي سنة
1206 هـ " ويذكر تهنئته لأبي الفوز إبراهيم السندوبي :
بروحي
حبيبا في محاسنه بـدا فخرت له أهل المحاسن سجدا .. ألخ
وممن ترجم لهم وأفاض في سيرهم أبو بكر محمود
بن أبي الفضل العمري الدمشقي الشهير بالصفوي " توفي سنة 1102 هـ " وأحمد
بن محمد المنفلوطي " توفي سنة 1118 هـ " وحسن البدري الحجازي "
توفي سنة 1131 هـ " ومحمد البنتيني السقاف باعلوي اليمني " توفي سنة
1125 هـ " وسالم ن عبد الله بن شيخ بن عمر بن عبد الرحمن " ولد بجدة سة
1123 هـ " وغيرهم مما هو مدون في سفرة الكبير .
المجالس الأدبية
في مواطن كثيرة كان الجبرتي يتطرق إلى
الحديث عن المجالس الأدبية والمطارحات بين الشعراء والمناقشات بين الأدباء ، كما
كان يتحدث عن خزائن الكتب وما يتعلق بحرفة الوراقين من تجليد وتذهيب ونحو ذلك .
ففي ترجمته لرضوان كتخذا يقول ([64])
" وقصدته الشعراء ومدحوه بالقصائد والمقامات والتواشيح ، وأعطاهم الجوائز
السنية ، وداعب بعضهم بعضا ، فكان يغري هذا بهذا ، ويضحك منهم ويباسطهم ، واتخذ له
جلساء وندماء منهم الشيخ على جبريل ، والسيد سليمان ، والسيد حمودة السديري ،
والشيخ معروف ، والشيخ مصطفى اللقيمي الدمياطي " صاحب المدامة الإخوانية في
المدائح الرضوانية " ومحمد أفندي المدني ، وامتدحه العلامة الشيخ يوسف الحفني
بقصائد طنانة ، وللشيخ عمار القروي فيه مقامة مدحا في المترجم ومداعبة للسيد حمود
السديري المحلاوي ، وأجابه بأبلغ منها مقامة وقصيدة من رويها أديب العصر الشيخ
قاسم بن عطاء الله الأديب المصري ، والأديب الفاضل الشيخ عبد الله الإدكاوي ،
والعلامة قاسم التونسي .. "
وفي معرض حديثة عن المعتبر العادلي الدمرداش
قال ([65])
: " وكان بيته بالأزبكية ويرد عليه العلماء والفضلاء " وفي ترجمته
لسليمان الرومي قال " وكانت له خلوة بالمدرسة السليمانية لاجتماع الأحباب ،
وكان حسن المذاكرة ، لطيف الشمائل ، حلو المفاكهة ، يحفظ كثيرا من الأناشيد
والمناسبات " .
وكان لمحمود محمد دار أمامه فسحة مليحة
يقصدها الأكابر والأعيان والتجار والشعراء مثل مصطفى الصاوي وغيره ويقولون فيه
المدائح ([66])
وسجل الجبرتي في كتابه بعض أماكن الكتب كما في المدرسة التي أقيمت تجاه الجامع
الأزهر . وكانت بها خزانة كتب عظيمة جعل خازنها محمد " أفندي " حافظ ،
وينوب عنه محمد الشافعي الجناجي ([67]).
وهكذا رصد الجبرتي الحركة الأدبية والفكرية
والعلمية والتاريخية فيما كتبه ، ولا يخفى ما في ذلك من خدمة للتاريخ الأدبي ، ساعدت
كثيرا من المعنيين بالحركة الأدبية في العصر الحديث .. وغدا الكتاب مصدرا من
مصادرها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق