الجبرتي والحركة العلمية والأدبية في الجزيرة العربية

الجبرتي والحركة العلمية والأدبية في الجزيرة العربية
في العقدين الماضيين اشتدت حركة طبع التراث ونشره لأغراض متعددة ، وظهر في قائمة المطبوعات كتاب " عجائت الآثار في التراجم والأخبار " لعبد الرحمن حسن الجبرتي ، المؤرخ المشهور الذي اعتمد عليه أكثر المؤرخين والباحثين في مدة تزيد عن مائة وثلاثين سنة ، من العصر العثماني حتى بداية العصر الحديث .
ولكن الطبعات التي ظهرت لكتاب الجبرتي ، منها ما هو بعنوان " تاريخ الجبرتي " ويحتوي على مختارات من الوقائع التاريخية ، ومنها ما هو بعنوان " كتاب الجبرتي " ، ولكنه ـ وهو الخطر ـ جرد من الموضوعات الأدبية كالشعر والنثر ، وتراجم الأدباء والشعراء والعلماء والمفكرين .
وهذه ظاهرة خطيرة لا يمكن السكوت عليها ، لأنها لا تخلو من شبهة مقصودة لحجب الحقائق ، وفي حق هذا العالم المؤرخ الذي دافع عن المثل والقيم التي يعتقدها حتى سقطت شهيداً دون مبادئه .
ولقد لقى الرجل بعد موته حملة عنيفة قللت من شأنه وشأن كتابه ، وأقل هذه الحملات اتهامه بالجهل والعامية وحشد الدخيل على اللغة العربية ، وبعده عن الأدب والأدباء ، لأن العصر الذي أرّخ له عصر انحطاط وجهل وخرافات وأباطيل.
والواقع أن الرجل أرّخ للأحداث في عصره بأمانة وصدق ، وابتعد ـ بقدر طاقته ـ عن النفاق والتملق .. ووقف ضد رغبة محمد على في كثير من المواقف .
وهذا البحث يعطي لمحة عن موقف الجبرتي من الحركة الأدبية في الجزيرة خاصة .. وذلك موقف ينم عن عقيدته الراسخة بوحدة الأمة الإسلامية ، وتحدث عن أدباء وعلماء الأقطار العربية والإسلامية بغير حساسية .
قلت في بحث عن " الجبرتي .. والدعوة السلفية " إن الصلة الفكرية والأدبية والثقافية بين جزيرة العرب ، ودول غرب البحر الأحمر ، كانت قوية جدّاً قبيل العصر الحديث وفي بداية هذا العصر ، بل تكاد تزيد عن قوتها في أيامنا هذه التي تقدمت فيها وسائل المواصلات والاتصالات .. كانت العلاقات بين العلماء والأدباء وثيقة تمكنهم من الوقوف على التيارات العلمية والفكرية والأدبية في أنحاء البلاد العربية ، وبعض البلاد الإسلامية .
قلت ذلك لأني أمعنت النظر في كتاب " عجائت الآثار في التراجم والأخبار " لعبد الرحمن الجبرتي " 1167 – 1822 م " ، العالم الأزهري الذي تولى كتابة الديوان في أيام الحملة الفرنسية ، وتصدر إفتاء الحنفية في عهد محمد على ، وعارض رغبات محمد على وأولاده ، فاضطهد وسجن وقتل ابنه خليل ، ثم لحق الجبرتي عقب عودته من قصر محمد على في شبرا ، ووجد مربوطاً في إحدى رجلي حماره ، ومعه بعض دفاتره ([1]) .
ويظن بعض المثقفين أن تاريخ الجبرتي يشتمل على تاريخ مصر دون غيرها ، وأنه قاصر على الأحداث والوقائع التاريخية ، وأنه تغلب على أسلوبه العامية والركاكة ، واللحن .. وكان لهذا الظن أثره ، وشاع القول إن تاريخ الجبرتي لا علاقة له بالأدب .
والواقع الذي تدعمه النصوص النثرية والشعرية في هذا الكتاب ، تكشف أنه تأريخ للحركة الأدبية والعلمية في العالم العربي من المحيط إلى الخليخ ، حيث أسهب في إيراد العلماء والأدباء والشعراء ، من المغرب وتونس والجزائر وليبيا ومصر والسوادان والصومال والحبشة " موطن أجداده " وبلاد الشام والعراق ، كما أطنب وأفاض في تاريخ أدباء الجزيرة العربية ، وعرف من أخبارهم ما يخفي على الكثيرين من الناس ، وتابع جولاتهم في بلادهم وفي بلاد الهند والروم ، ودوّن نوادر من أشعارهم ونثرهم ، فكتب لها الذيوع والنشر ، بينما لا يزال بعضها مخطوطا ً أو ضاع في عالم النسيان .
ونعرض هنا لنماذج من أدباء وشعراء وعلماء الجزيرة العربية الذين ترجم لهم الجبرتي في كتابه ، ونشير إلى بعض النصوص الأدبية بما يقتضيه المقام ، لنكشف عن اهتمام الجبرتي بالحركة الأدبية في هذا الموطن ، خاصة والمواطن الأخرى بصفة عامة ، وليتضح من ذلك عمق الصلة الأدبية بين مصر والجزيرة العربية قبيل العصر الحديث .
وغني عن التنويه أن هؤلاء العلماء والأدباء والشعراء الذين كتب عنهم الجبرتي وأفاض في تفصيل دقيق ينم عن إحاطة شاملة بأطوار حياتهم المختلفة ، حتى غدت المصدر الأول لدى دوائر المعارف وتراجم الإعلام في العصر الحديث.
وهذه بعض النماذج التي تمثل مختلف مناطق الجزيرة العربية والحياة الأدبية والعلمية فيها :
·       السيد عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد بن محمد كريشة بن عبد الرحمن السقاف ، ولد بمكة المكرمة ، وتربى في حجر والده ، وقد شافه كبار العلماء من أمثال شيخ الإسلام عمر بن عبد الرحيم البصري ، والشيخ محمد بن علوى ، وأبي بكر العيدروس الضرير ، وتزوّج ابنة الأخير ، وقد سافر للتزوّد بالعلوم الشرعية ثم عاد إلى مكة المكرمة ، وتوفي ليلة الجمعة سنة 1104 هـ  ([2]) .
·       شيخ الشيوخ برهان الدين إبراهيم حسن بن شهاب الدين الكوراني المدني ، ولد بشهران سنة " 1205 هـ "  وتتلمذ على يد شريف الكوراني الصديقي ، ثم رحل إلى بغداد ، ودمشق ، ومصر ، والحرمين ، ثم استقر بالمدينة المنورة حيث لازم العشاشي ، وأجازه كبار العلماء من أمثال : الشهاب الخفاجي ، والبابلي واللاهوري وغيرهم ، وتوفي سنة 1101 هـ ([3]) .
·       السيد الشريف عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عبد الله بلفقيه التريمي ([4]) ، أخذ الفقه والحديث من كبار العلماء ، وفي مقدمتهم مصطفى بن زين العابدين العيدروسي والسيد محمد سعيد وغيرهما ، وتوفي ببندر الشحر ([5]) سنة 1104 هـ ([6]) .
·       العمدة الفاضل السيد محمد البيتي السقاف باعلوي ، وهو والد جعفر البيتي كما سيأتي ذكره في هذا الحديث ، ولد باليمن ، ودخل الحرمين الشريفين وفيهما أخذ عن السيد عبد الله باحسين ، وكان يلبس الثياب الفاخرة ، ويتزي بزي أشراف مكة ، ومن شعره قوله :
             إنما الخلطة خلط ووبــا            وأرى العزلة من راي السداد
             ثقة الإنسان عجز بالورى         بعدما أنزل في سورة صـاد
يريد قوله تعالى : ﯘ  ﯙ  ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝ    ﯞ  ﯟ  ﯡ  ﯢ  ﯣ  ﯤ  ﯥ  ﯦ       ﯧ   ﯨ    ﯩ   ﯪ  ﯫ  ص: ٢٤
·       السيد سالم بن عبد الله بن شيخ بن عمر بن شيخ بن عبد الرحمن السقاف ، ولد في جدة سنة 1031 هـ وانتقل مع والده إلى المدينة المنورة ، وفيها تلقى تعليمه ، فحفظ القرآن الكريم وغيره من المتون ، ثم ارتحل إلى مكة المكرمة واستقر بها ، وفيها تتلمذ على علي بن الجمال ، ومحمد بن أبي بكر الشلي ، وجد في تحصيل المكارم ، وله شعر ونظم حسن ، وتوفي سنة 1123 هـ ([7]) .
السيد عبد الرحمن السقاف باعلوي ، كانت ولادته بالديار الحضرمية ، ثم رحل إلى الهند ، وتعرّف على كبار العلماء ، وعاد إلى الحرمين وأقام بالمدينة المنورة ، وبها تزوّج الشريفة العلوية العيدروسية ، من ذرية السيد عبد الله صاحب الرهط ، وقد كان من الصالحين ، وتوفي رحمه الله سنة 1124 هـ .
·       السيد عبد الله بن جعفر بن علوي مدهر باعلوي ، ولد بالشحر وبها نشأ ، ثم توجه إلى الحرمين ، ونزل في مكة المكرمة ، ثم رحل إلى الهند ومكث مدة تقرب من عشرين عاما ، ثم عاد مرة ثانية إلى الحرمين ، واستفاد من علم والده وأخيه العلامة علوي ومحمد بن أحمد الستاري وابن عقيلة وغيرهم ، وله مؤلفات نفيسة منها : كشف اسرار علوم المقربين ، ولمع النور بباء اسم الله يتم السرور ، وشرح ديوان شيخ بن إسماعيل الشحري ، والنفحة المهداة ، وديوان شعر ، ومراسلات وغير ذلك ([8]) ، ومن نماذج شعره قوله :
             خليلي طاب القلب وانشرح الصدر        وجاء المنى والأمن والفتح والنصر
             وقد جاء وجه الحق بالحق وانجلى        بنور اتحاد عندنا الخلق والأمــر
             فلا شيء غير الله في كل ما نرى         وآياته في كل مجلى به زهـــر
             وما هذه الألوان إلا مراتـــب         لوحدته اللاتي هي هي القل والكثر
             وإن له أسماء حُسنى كما أتــى            بتنزيله فافهم فقد ظهر الســـرُّ
وهو شعر كما نرى يميل إلى النظم وتوضيح الحقائق ، وتقل فيه العاطفة والشعور ، وكأنه يقرر مسائل في علم التوحيد ويشير إلى الأدلة النقلية في القرآن الكريم .
وله كلام في قوة الاعتماد على الله وترك ما سواه ، كما في قوله :
             إن الهموم من الأوهام منشؤها            ورؤية الغير ترمي العبد في الغير
وكانت وفاته بمكة المكرمة سنة 1160 هـ ([9]) .
الإمام الأديب المتفنن أعجوبة الزمان ([10]): على بن تاج الدين محمد بن عبد المحسن بن محمد بن سالم القلعي الحنقي ، ولد بمكة المكرمة ونشأ في بيت والده حيث العز والسيادة والسعادة ، وتلقى تعليمه الأولي على يد والده ، وعلى فضلاء مكة والواردين إليها ، ثم وجد في نفسه حبّاً للأدب وميلاً إليه ، فأدمن في قراءته وغاص في بحاره ، ووقف على مكنونه ، وقطف من ثماره ، وطارح أدباء عصره في كل قطر ومصر حتى بهرهم بفضله وأدبه ، ورحل إلى بلاد كثير كالشام حيث التقى بالشيخ عبد الغني النابلسي ، وأخذ عنه في سنة 1142 هـ ، وتوجه إلى بلاد الروم ثم عاد إلى مكة المكرمة ، ثم رحل إلى مصر سنة 1160 هـ ، والتقى فيها بأساطين العلم والأدب ، وفي مقدمتهم الشيخ عبد الله الإدكاوي ، والشيخ عبد الله الشبراوي ، والشيخ المرحومي وغيرهم . وقد قرظ الشبراوي بعض مؤلفات أديبنا المذكور بشعر مثبت في ديوان الشبراوي .
وقال الشيخ عبد الله الإدكاري : " قدم علينا محروسة القاهرة ذات المزايا الباهرة ، المولى الفاضل ، والهمام الكامل الأديب الألمعي والأريب اللوذعي ، نور الدين على بن تاجالدين الحنفي المكي القلعي عالم مكة المكرمة ومفتيها .. وأظهر من بدائعه الغريبة وروائعه المطربة العجيبة بديعته الغراء وفريدته العذراء ، المسماة الأنواع العجيبة الاختراع ، وابتدع أنواعاً لم يسبقه إليها سابق ولا لحقه فيها لاحق .. إلخ " وقد مدحه بقصيدة قال فيها :
             صب بوعدك كم مطلته            هجرته هلا أجرتــه
             سهران نام مسامــرو         ه هجعاً هلا أنمتـــه
             كمد دواعي يأســـه          هاجت تحكم ما أثرته .. ألخ

وهي قصيدة طويلة ، ويقول الإدكاوي : " فحين قدمتها إليه وتشرفت بلثم يديه .. أوفقني على نوع ثان سماه العود .. ورأيته نظم منه بيتين أطرب من المثاني والمثالث وقال في عبارة لأعز عندي من عززهما بثالث ، فعملت له من هذا النوع قصيدة مدحته بها وهي :
             عقيق دمعي غدا في الجذع كالديم        مذ بان سكان بن الحي والعلـم
             رانهل منسجماً من نار مضطرم          ملآن وجداً إلى خشف بذي سلم .. ألخ
وهكذا يكشف الجبرتي عن المطارحات الأدبية المفعمة بالحب والوداد بين الشعراء والأدباء بصورة تلفت النظر ، وتكشف عن هذه الصلات التي أشرنا إليها فيما سبق ، وكنا نود أن يتسع المقام لعرض كثير من النماذج والنصوص الشعرية .
وكان لعلي بن تاج الدين المكي علاقة بالمرحوم على باشا ابن الحكيم ، الوزير المعروف ، فأغدق عليه ما لا يوصف ، وأنزله في منزل بالقرب من جامع أزبك ، وصار يركب في موكب حافل تقليداً للوزير ([11]) .. وحين عزل الوزير ونفى إلى بلاد الروم ظل شاعرنا وفياً لهذا الوزير ، وأخذ جميع ما بيده ، فمكث في الإسكندرية حتى مات بها شهيداً ـ كما يقول الجبرتي ـ في سنة 1172 هـ ، وقد ترك الشاعر ديوان شعر ورسائل وغير ذلك . ومن نظمه قوله :
               بوجهك الحسن زاء        وأنت بالحسن زاهر
               ومن سنائـك واف         وأنت يا بدر وافـر
               ومن صدودك شاك       ومن وصالك شاكر
وله أشعار كثيرة فيها من الجناس المعنوي المضمر واللفظي والمطلق والتام المستوفي والمفروق وغير ذلك من الشعر الذي تغلب عليه الصنعة اللفظية كما هي سمة عصره .
·       ومن علماء وأدباء الجزيرة العربية : عمر بن أحمد بن عقيل الحسيني المكي الشهير بالسقاف ، ابن أخت حافظ الحجاز عبد الله بن سالم البصري ، ولد بمكة المكرمة سنة 1102 هـ ، وتوفي سنة 1174 هـ .
·       المفتي الفاضل النبيه زين الدين أبو المعالي حسن بن علي بن علي بن منصور بن عامر بن ذئاب شمه الغوي الأصل المكي . ولد بمكة المكرمة سنة 1142 هـ ، وبها نشأ وتعلّم ، وذهب إلى مصر وتعلّم بها أيضاً ، وله مؤلفات أجاد فيها ، وكان فصيحا بليغاً حاد الذهن جيد القريحة وله سعة اطلاع في العلوم الغربية ، وله نظم رائع جمع في ديوان ، وتوفي سنة 1176 هـ ([12]) .
·       إمام السنَّة ومقتدى الأمة عبد الخالق بن أبي بكر بن الزبيدي الصديق بن ابي القاسم النمري الأشعري الزجاجي الزبيدي الحنفي ، جده الأعلى محمد بن أبي القاسم صاحب إسماعيل الجبرتي ، ولد سنة 1100 هـ ، وحفظ القرآن الكريم وبعض المتون ، ووفد إلى الحرمين لطلب العلم ومات بمكة المكرمة سنة 1181 هـ ([13]) .
·       جعفر البيتي " 1110 – 1182 هـ / 1698  - 1768 م " ، وهو جعفر بن محمد البيتي السقاف باعلوي الحسيني قال عنه الجبرتي : " وحيد دهره في المفاخر ، وفريد عصره في المآثر ، نخبة السلالة الهاشمية ، وطراز العصابة المصطفوية ، أديب جزيرة الحجاز .. " ([14]) .
ولد ـ رحمه الله ـ بمكة المكرمة ، وبها تعلّم ودرس على كبار علمائها وفي مقدمتهم النخيلي والبصري وغيرهما وأجازوه في التدريس ، فدرس وأفاد والتقى بالسيد عبد الرحمن العيدروس ، فدرس وأفاد والتقى بالسيد عبدالرحمن العيدروس ، وأخذ كل منهما عن صاحبه .
وتغيرت به الأحوال فتقلب في وظائف عدة ، منها كتابة الينبع ، كما يتضح ذلك في نثره ([15]) ، ثم انتقل إلى وزارة المدينة المنورة ، وصار إماماً في مقدمة الأدب يتميز بعذوبة القول ، ويشير الناس إليه بالبنان ، ويجري حديثه على ألسنة الركبان ، وله ديوان شعر جمعه لنفسه ، نقل منه الجبرتي كثيراً من النصوص التي تعبّر عن شاعريته ، مثل قوله معارضاً قصيدة فتح الله النحاس :
             رأى البق من كل الجهات فراعه          فلا تنكروا إعراضه وامتناعه
             ولا تسألوني كيف بت فإننــي       لقيت عذاباً لا أطيق دفاعــه
             نزلنا بمرسى ينبع الحر مــرة        على غير رأي ما علمنا طباعه
             نقارع من جند البعوض كتائبـا            وفرسان ناموس عدمنا قراعه ([16])
وقد عرض الجبرتي نصوصاً من نثر وإنشاء جعفر البيتي ، ليدلل على كمال طبعه ومقدرته الفذه في الشعر والكتابة ، ولولا خشية الإطالة لعرضنا كثيراً من هذه الكتابات التي هي تراث لهذا الشاعر العظيم ، وعرف الجبرتي قدره فأفرد له صفحات من كتابه قال في نهايتها : " وله غير ذلك مدائح وقصائد وغزليات وتخميسات ومراسلات كلها غرر ومحشوة بالبلاغة ، تدل على غزارة علمه ، وسعة اطلاعه " ، وقال عنه صاحب " سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر " السيد محمد خليل المرادي : " وبرع في نظم الشعر حتى كاد أن يكون كالمتنبي وكانت له مهارة .. " ، وتوفي ـ رحمه الله ـ بالمدينة المنورة سنة 1182 هـ ([17]) .
ومن أدباء جزيرة العرب الذين سجلهم الجبرتي وعنى بآثارهم وتاريخهم : الأديب الشاعر ، والكاتب الماهر ، والمنشيء الشيخ إبراهيم بن محمد بن سعيد بن جعفر الحسني الإدريسي المنوفي المكي الشافعي ([18])، ولد في آخر القرن الحادي عشر للهجرة ،في مكة المكرمة ، وتلقى علومه على كبار العلماء في عصره من أمثال البصري والنخلي ، وتاج الدين القلعي والعجمي ، والسخاوي وابن عقيلة وغيرهم ، وذكر الجبرتي أنه إلى جانب علمه وفضله ، له شعر نفيس قد جمع في ديوان ، ودارت بينه وبين السيد جعفر البيتي ، والسيد العيدروس ، محاورات ومخاطبات ، وقال الشيخ العيدروس في حقه : " إنه أديب جزيرة الحجاز ولا أستثني " .
وقد عارض الشاعر إبراهيم الإدريسي بقصيدة له حائية ابن النحاس ، وكما نعلم فإن المعارضات من الفنون التي سادت قديماً وخاصة في العصر التركي ، وقد قام الشاعر بعدة رحلات إلى الهند ، وحين عاد منها تولى كتابة السر في مكة المكرمة ، وكان يكاتب رجال الدولة بقلمه السيال ، وقد جمع الشاعر إلى فن الكتابة وطلاقة اللسان علوم الطب وتجويد القراء للقرآن الكريم ، وحسن الخط ، وبرع في موافقة سرعة كتابته مع الانتهاء من القراءة .
وله ديوان سماه " السبع السنابل في مدح سيد الأواخر والأوائل " وله رسالة في علم الطب ، ومن شعره بيتان اشتهرا على الألسنة هما :
             كيف يقوى على المقام محب       قد أتاه النداء من المحبــوب
             قد رحمناك أننا نقبل العــذ          ر ونمحو بالعفو رين العيوب
وتوفي ـ رحمه الله ـ سنة 1187 هـ .
هذه صورة لنماذج من أدباء وشعراء وعلماء في الجزيرة العربية ، تؤكد ما ذهبنا إليه من عمق الصلة بين الأقطار العربية والإسلامية ، وخاصة بين العلماء والأدباء والمفكرين ، وهي صلة رحم تتخطى كل الحواجز والموانع ، ومهما تشتد وتقوى فلن تقطعها حتى ولو كانت مثلما هي عليه في عصر الجبرتي .
كما أن هذه النماذج ـ على الرغم من إيجازها ، والاقتصار على بعض ما جاء في تاريخ الجبرتي ـ على الرغم من ذلك ، فهي تكشف عن تتبع كتاب " عجائب الآثار في التراجم والأخبار " للحركة الأدبية والعلمية بطريقة تبدد كل اتهام وجه إلى ذلك المؤرخ الكبير ، ولا نبالغ إن قلنا إن ما كتبه الجبرتي عن الحركة الأدبية في عصره ، وما أورده من نصوص أدبية وأخبار وتراجم تمثل مصدراًَ من المصادر الهامة للعصر التركي وبداية العصر الحديث ، وما أشرنا إليه في هذا البحث المتواضع أكبر دليل على ذلك ، ويمكن كتابة بحوث أخرى تكملة لهذا البحث تتابع سير الحركة الأدبية في كتاب الجبرتي ، في المغرب العربي ، وفي مصر ، وفي الشام وغيرها .



([1]) الزركلي : الإعلام ، جـ 3 ، صـ 304 .
([2])الجبرتي ، جـ 1 ، صـ 69 .
([3])المصدر السابق .
([4])تريم : على بحر الهند من ناحية اليمن .
([5])الشحر في حضرموت .
([6])الجبرتي ، جـ 1 ، صـ 71 .
([7])الجبرتي ، جـ 1 ، ص 89 .
([8])الإعلام للزركلي ، جـ 1 ، صـ 77 .
([9])الجبرتي ، جـ 1 ، صـ 169 .
([10])المرجع السابق ، صـ 216 .
([11])الجبرتي  ، جـ 1 ، صـ 218 .
([12]) الجبرتي  ، جـ 1 ، صـ 266 .
([13]) الجبرتي  ، جـ 1 ، صـ 290 .
([14]) الجبرتي  ، جـ 1 ، صـ 321 .
([15])د. محمد عبد الرحمن الشامخ : النثر الأدبي في المملكة العربية السعودية ، صـ 14 .
([16])الجبرتي ، جـ 1 ، صـ 324 .
([17])الجبرتي  ، جـ 1 ، صـ 336 .
([18])الجبرتي  ، جـ 1 ، صـ 380 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق