من مقاييس النقد الأدبي
المثل الإسلامية عند ابن عبد ربه
كان النقد الأدبي عند السابقين يعتمد على مقاييس مستلهمة
من واقع الأدب ومشاكله في أطواره المختلفة ، وفي بيئته الحاضره ، كما جاء في كتاب
" طبقات فحول الشعراء " لابن سلاّم الجُمحي ، فعنى بالتركيز على الرواية
والدربة والممارسة لسلامة النص الأدبي ... ثم أخذ في تعليل الظواهر الأدبية بما هو
أقرب إلى تاريخ الأدب .. ثم جاء كتاب "الشعر والشعراء" لابن قتيبة ، الذي
غلبت عليه الروح العلمية في تقسيم الشعر دون التعمق في النصوص والنظر إليها نظرة
شاملة ، تجمع التركيب والصياغة والصور الحقيقية والخيالية وما لذلك من أثر على
المعاني . وكانت نظرة الآمدى على الرغم من تقدمها في مجال النقد العربي ، تتسم
بشائبة في الحيدة ـ مع تسليمنا بمقاييسه النقدية وسلامتها . وجاء القاضي الجرجاني
فوضع كتابه " الوساطة بين المتنبي وخصومه " لتكتمل به صورة النقد
المنهجي ، ويعطى المثل لما ينبغي أن يكون عليه الناقد الأدبي من عدالة ونزاهة في
حكمه على النص الأدبي ، وبذلك فتح الباب أمام عبد القاهر الجرجاني ، لاستخراج
نظرياته النقدية في تقويم تراثنا العربي .
وكان أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه " 246 -338 هـ / 860 -940 م " متقدما على الآمدي والقاضي
الجرجاني ووضع في كتابه " العقد الفريد " معايير ومقاييس نقدية ، تعبر
عن شخصيته المستقلة ، ونظرته في القيم التي سادت نتاج الشعراء والأدباء .
وفي مقدمة مقاييسه ومعاييره التي قّوم بها الشعر والنثر :
القيم الإسلامية ، لأن الإسلام أوجد في القرون الثلاثة التي أعقبت ظهوره ببيئة
جديدة .. وعرفا جديدا .. وثقافة جديدة .. غطت على العرف العربي والذوق الذي ساد
قبل الإسلام واحتوى الثقافات الواردة وصهرها في بوتقة احترام المثل العليا
والفضيلة والأخلاق ، التي يقدسها المجتمع الجديد .. وتحت هذه الظلال تعامل ابن عبد
ربه مع النصوص الأدبية وأفكارها كما سنرى .
والباحث
المتأمل في أكثر أبواب الكتاب ، وفي فصوله وجزئياته ، يجدها
مصدرة بمقدمة إسلامية ، يضع فيها الأسس والمقاييس لما سيعرضه من نتاج أدبي وفكري ،
ومن هنا نورد بعض الأمثلة التي تدعم قولنا ونلفت النظر للوقوف عليها لأن المفاهيم
الإسلامية في هذا العصر ، سادت وتغلبت على المفاهيم العربية القديمة ، والمفاهيم
غير العربية الواردة من الثقافات الأخرى ، وكان ابن عبد ربه يقول : " إن
النمط الإسلامي هو الذي ينبغي أن يحتذى وهو المثل الأعلى من حيث الشكل والمحتوى
لأن الإسلام جاء لترسيخ مكارم الأخلاق ، والحض على كل قيمة إنسانية وفضيلة
اجتماعية " .
فمما جاء في فرش كتاب الؤلؤة في السلطان ، وهو أول أبواب
الكتاب قوله : ([1]) " فحقّ على مَنْ قلَّده اللهُ أزمّة حكمه .. وملّكه
أمور خلقه .. واختصه بإحسانه .. ومكّن له في سلطانه أن يكون من الاهتمام بمصالح
رعيته والاعتناء بمرافق أهل طاعته ـ حيث وضعه الله ـ عز وجل ـ من الكرامة وأجرى له
من أسباب السعادة . قال الله ـ عز وجل ـ : ﭽ ﮄ ﮅ
ﮆ ﮇ ﮈ
ﮉ ﮊ ﮋ
ﮌ ﮍ ﮎ
ﮏ ﮐ ﮑﮒ
ﮓ ﮔ ﮕ
ﮖ ﭼالحج:
٤١ ، وقال حذيفة بن اليمان : ما
مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم . وقال رسول
الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة
" .. وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " كلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول
عن رعيته " وقال الشاعر :
فكلكم راع ونحن رعية وكلُ سيلقى ربه فيحاسبه
وجاء في كتاب العقد الفريد في فرش كتاب الزبرجدة في
الأجواد والأصفاد قوله ([2])
" ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة من صفات الله ـ تعالى ـ تسمى بها فهو
الكريم ـ عز وجل ـ ومن كان كريما من خلقه فقد تسمى باسمه واحتذى على صفته "
.. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه "
.. وفي الحديث المأثور : " الخلق عيال الله فأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم
لعياله " .. وقال الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ لعبد الله بن جعفر :
" إنك قد أسرفت في بذل المال . قال بأبي وأمي أنتما ، إن الله قد عودني أن
يتفضل علىَّ وعودته أن أتفضل على عباده فأخاف أن أقطع فيقطع عني " .
وقال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي : أنت متلاف . قال :
منع الجود سوء ظن بالمعبود
. يقول الله ـ عز
وجل ـ : ﭽ ﯰ ﯱ ﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ
ﯸ ﯹ ﯺﯻ
ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ
ﰀ ﰁﰂ ﰃ
ﰄ ﰅ ﰆ ﭼسبأ:
٣٩ ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
" أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا " .. الخ .
ويقول ابن عبد ربه : ـ أيضا ـ في فرش كتاب الجمانة في
الوفود ([3])"
ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ وعلى الخلفاء والملوك ، فإنها مقامات فضل ومشاهد حفل يتخير لها الكلام ..
وتستهذب الألفاظ وتستجزل المعاني .. ولابد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم
الذي عن قوته ينزعون وعن رأيه يصدرون ، فهو واحد يعدل قبيلة ، ولسان يعرب عن ألسنة
، وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو خليفته ، ألا
قد ترى أن قيس بن عاصم المنقري لما قدم على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بسط له
رداءه وقال : " هذا سيد الوبر " ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر :
عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحمـا
تحية من ألبسته منك نعمــة
إذا زاد عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدمــــا
وعند تقديم ابن عبد ربه لكتاب المرجانة في مخاطبة الملوك ،
يعطينا صورة للنقد الأدبي القائم على التعليل ، وربما غفل الكثيرون ممن درسوا كتاب
العقد الفريد عن تلك الصور ، وأطلقوا عليها شذرات ، أو ومضات خاطفة ، ولكنه أوضح
رأيه ، ووضع مقاييس وموازين المعاني ، وقيمتها التي يجب الارتقاء إليها عند كل فن
أو غرض أدبي ، وهذا ما نجده في الأبواب والموضوعات التي طرقها في كتابه المذكور
حيث يقول ([4])
" ونحن قائلون ـ بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده ـ في مخاطبة الملوك ، والتزلف
إليهم بسحر البيان ، الذي يمازج الروح لطافة ويجري مع النفس رقة ، والكلام الرقيق
مصايد القلوب . وإن منه لما يستعطف المستشيط غيظا ، والمندمل حقدا ، حتى يطفئ جمرة
غيظة ، ويسل دفائن حقده ، وإن منه لما يستميل قلب اللئيم ، ويأخذ بسمع الكريم
وبصره ، وقد جعله الله بينه وبين خلقه وسيلة نافعة ، وشافعا مقبولا . قال ـ تبارك
وتعالى ـ : ﭽ ﯾ ﯿ ﰀ
ﰁ ﰂ ﰃ
ﰄﰅ ﰆ ﰇ
ﰈ ﰉ ﰊ ﭼالبقرة:
٣٧
ومما يؤيد وجهة نظرنا ، ما جاء في فرش كتاب الجوهرة في
الأمثال ، قول ابن عبد ربه ([5])
: " وقد ضرب الله ـ عز وجل ـ الأمثال في كتابه وضربها رسول الله ـ صلى الله
عليه وسلم ـ في كلامه .. قال عز وجل : ﭽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖﭗ ﭼالحج:
٧٣ﭽ ﮍ ﮎ ﮏ
ﮐ ﭼالنحل:
٧٦.. ومثل هذا كثير في آي القرآن ، فأول ما
نبدأ به أمثال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..ثم أمثال العلماء .. ثم أمثال
أكتم بن صيفي وبزرجمهر الفارسي .. وهي التي كان يستعملها جعفر بن يحيى في كلامه ..
ثم أمثال العرب التي رواها أبو عبيد ، وما أشبهها من أمثال العامة ، ثم الأمثال
التي استعملها الشعراء في أشعارهم في الجاهلية والإسلام " .
وفي النص السابق تتضح القيم والمثل ، والتي يتخذها لتكون
مقياسا يعلو ويتقدم كل مقياس ، بل إنه في هذا الباب إلى جانب ما تقدم ـ يجمع
الأمثال التي قيلت في مكارم الأخلاق : كالحلم والعفو عند المقدرة ، والمساعدة وترك
الخلاف ومداراة الناس ، ومفاكهة الرجل أهله ، واكتساب الحمد واجتناب الذم والصبر
على المصائب ، وغير ذلك كثير جدا . وربما كان ابن عبد ربه أول من صنف الأمثال في
موضوعات متخصصة مثل : أمثال الرجال واختلاف نعوتهم ، وأمثال الجماعات وحالتهم ، والأمثال
في القربى ، والأمثال في مكارم الأخلاق وهو أعظمها وأشملها .
وتبرز مقاييس النقد الأدبي عند
ابن عبد ربه ، في ضوء المعاني الإسلامية ، والمثل العليا التي رسخها في المجتمع
الإسلامي ، على النحو الذي جاء في كتاب : " الزمردة في المواعظ والزهد "
الذي يمهد به بقوله ([6])
: " ونحن نبدأ ـ بعون الله وتوفيقه ـ بالقول في الزهد ورجاله المشهورين به ،
ونذكر المنتخل من كلامهم والمواعظ التي وعظت بها الأنبياء واستخلصها الآباء
والأبناء ، وجرت بين الحكماء والأدباء ، ومقامات العباد بين أيدي الخلفاء ، فأبلغ
المواعظ كلها كلام الله ـ تعالى ـ الأعز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه ، تنزيل من حكيم حميد ..
قال ـ تبارك وتعالى ـ : ﭽ ﮦ ﮧ
ﮨ ﮩ ﮪ
ﮫ ﮬﮭ ﭼالنحل:
١٢٥.. ثم مواعظ
الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ثم مواعظ الآباء للأبناء ، ثم مواعظ الحكماء
والأدباء ، ثم مقامات العباد بين يدي الخلفاء " ([7])
وابن عبد ربه يختلف عن ابن قتيبة في هذه المقامات .
ولعل التصريح بقوله : "
فأبلغ المواعظ كلها كلام الله .. الخ " وما سبق من نصوص أخرى في مقدمة بعض
الأبواب والفصول ، يؤكد ويدلل على ما ذهبنا إليه . ونجد عشرات من مثل هذه النصوص
التي جاءت في التقديم لكل موضوع أو جزئية تندرج تحت كل كتاب من الكتب الخمسة
والعشرين ، التي ضمها العقد الفريد ـ ولا بأس من سرد بعض النماذج منها العقد
الفريد ـ ولا بأس من سرد بعض النماذج منها ولولا الملل والإطالة لأكثرنا من عرضها
ولكنا نفضل الإيجاز الذي التزمنا به في هذا البحث .
ومن أبلغ الأسس لقياس النص
الأدبي وتقويمه ، موازنته بالقيم والمثل الإسلامية ، التي احتواها الوحي القرآني
والسنة المطهرة الشريفة ، فهما الأسوة الحسنة في المضمون والشكل ـ أي المعنى
واللفظ ـ وذلك ما يرسخ في عقيدة الأديب الناقد والشاعر البليغ ابن عبد ربه . ووضح
في كتابه عند مقدمة " نصيحة السلطان ولزوم طاعته " ([8])
قال الله ـ تعالى ـ ﭽ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ
ﯼ ﯽ ﯾﯿ ﭼالنساء:
٥٩ .. وقال أبو هريرة
: " لما نزلت هذه الآية ، أمرنا بطاعة الأئمة ـ وطاعتهم من طاعة الله ، وعصيانهم
من عصيان الله ، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من فارق الجماعة أو
خلع يدا من طاعة مات ميتة جاهلية " ([9])
.
وفي حديثة عن " الولاية
والعزل " يقدم له بخير ما يقدم من إرشاد ، تخيره من أقوال رسول الله ـ صلى
الله عليه وسلم ـ مثل قوله : " ستحرصون على الإمارة ، ثم تكون حسرة وندامة ،
فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة " .
وعند الحديث عن " صفة جياد
الخيل " ([10])وهي
قوام العدة والعتاد في الدفاع عن الأمة ، لأن الخير معقود بنواصيها وأحسنها ما
أثرفيه من أقوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل قوله : " لو جمعت خيل
العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا الأشقر " .
ومن مقومات الجمال في الفن الصوت
الحسن ، لإذاعة الشعر ونشره في المجالس الأدبية ، وفي هذا المجال يلجأ ابن عبد ربه
إلى الذوق الإسلامي ، فيقول : وجاء موضوع " فضل الصوت الحسن " ([11])
. وقد قال أهل التفسير في قوله الله ـ تبارك وتعالى ـ : " يزيد في الخلق ما
يشاء " هو الصوت الحسن . وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي موسى
الأشعري لما أعجبه حسن صوته : " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود " .
وقد تناول الأدباء والشعراء
" فضيلة الشيب " لكن ابن عبد ربه يستحسن النصوص المقدسة ، لأنها تدل على
سمو المعاني وبلوغ الغاية ، وطمأنة النفس واستقرارها في طريق الخير ، المؤدي إلى
رضوان الله ، بينما الشعر يصف الشكل ويسوغه في نظر الناس ، دون الارتقاء إلى
البهاء الروحي .
يقول رسول الله ـ صلى الله عليه
وسلم ـ : " من شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة " وقال
ابن أبي شيبة : " نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن نتف الشيب . وقال
: " هو نور المؤمن " وقالوا : أول من رأى الشيب إبراهيم خليل الرحمن .
فقال : يارب ما هذا ؟ قال له : هذا الوقار . قال : رب زدني وقارا " .
وبعد هذه النصوص الإسلامية ، يأتي
بأحسن ما قاله الشعراء ، وقد وضع أمام القارئ الصورة المثلى في صدر الموضوع .
قال أحد الشعراء :
يقولون هل بعد الثلاثين ملعـب فقلت وهل قبل الثلاثين ملعــب
لقد جل قدر الشيب ان كان كلما بدت شيبة يعرى من اللهو مركب ([12])
وموضوع الاعتذار عن الذنب ، والتراجع عن الخطأ ، تناوله
النقاد منذ العصر الجاهلي وما بعده ، وقدم بعضهم النابغة الذبياني في هذا المجال .
وحين يتعرض صاحب العقد الفريد لهذا الموضوع ، يجعل المقياس الإسلامي هو المقياس
الأول .
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائبا إليك فلم تغفر له فلك الذنب
واعتذر رجل إلى إبراهيم بن المهدي ، فقال : قد عذرتك غير
معتذر إن المعاذير يشوبها الكذب ..
وقال آخر :
أقبل معاذير من يأتيك معتـــذرا إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك ظاهــرا وقد أجلك من يعصيك مستترا
خير الخليطين من أغضى لصاحبه ولو أراد انتصارا منه لانتصرا
ويقدم ابن عبد ربه النصوص التي تشع فيها الروح الإسلامية ،
ويفضلها على غيرها لأن صاحبها تشبع بمفاهيم القرآن أو السنة ، فيقول : وأحسن من
هذا عندي قول حبيب :
فأثبت في مستنقع الموت رجلـه وقال لها من تحت أخمصك الحشر
تردى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وعلة الحسن والجمال في هذه ترجع إلى المضمون ، إذ الإقدام
والصبر في الحرب من صفات المؤمنين الذين يجاهدون في الله حق جهاده ، حتى ينالوا
إحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة ، التي تحيل الشهداء عند ربهم يرزقون : ﭽ ﯭ ﯮ
ﯯ ﯰ ﯱﯲ
ﯳ ﯴ ﯵ
ﯶ ﯷ ﯸ
ﯹ ﯺ ﯻ ﭼالإنسان:
٢١، جزاء امتثالهم قول الله ـ تعالى ـ : ﭽ ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ
ﯮ ﯯ ﯰ
ﯱ ﯲ ﯳ
ﯴ ﯵ ﭑ
ﭒ ﭓ ﭔ
ﭕ ﭖ ﭗ
ﭘﭙ ﭚﭛ ﭜ
ﭝ ﭞ ﭟ
ﭠ ﭼالأنفال:
٤٥ – ٤٦ .
ففي الآيتين الأخيرتين ـ جمع الله تدبير الحرب كلها لأن
الحرب " رحى ثقالها الصبر ، وقطبها المكر ، ومدارها الاجتهاد ، وثقافها
الإناة ، وزمامها الحذر ، ولكل شيء من هذه ثمرة " ([13])
والشاعر قد حلّق حول هذه المعاني وجنى من ثمارها ، فحكم له بالإجادة والإبداع .
وأكثر الشعراء الذين جودوا المعاني نهلوا من رحيق القرآن
الكريم ، وعبق البلاغة النبوية ، اللذين لهما القدح المعلى في نقوس المسلمين ، لأن
الدراسات العلمية ، والبراهين النقلية ، شهدت لهما بالإعجاز والتفوق . ومن هذين
المنبعين أخذ حبيب الطائي قوله :
وما ابن آدم إلا ذكرى صالحة أو ذكرى سيئة يسرى بها الكلـم
أما سمعت بدهر باد أمتـــه جاءت بأخبارها من بعدها أمـم
وأخذ أبو بكر محمد بن دريد قوله :
وإنما المرء حديث بعــده فكن حديثا حسنا لمن وعــى
فالشاعران نظرا إلى قول الله ـ تعالى ـ : ﭽ ﭑ ﭒ
ﭓ ﭔ ﭕ
ﭖ ﭗ ﭼالشعراء:
٨٤
وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا أردتم أن
تعلموا ما للعبد عند ربه فانظروا ما يتبعه من حسن الثناء " . وكتب عمر بن الخطاب
ـ رضى الله عنه ـ إلى أبي موسى الأشعري يقول له : اعتبر منزلتك من الله ، بمنزلتك
من الناس واعلم أن ما لك عند الله ، مثل
ما للناس عندك .
والإسلام جاء للحق والخير ، وليتمم مكارم الأخلاق ، ولذلك
أبقى المسلمون على مآثر العرب في الجاهلية ، لما تشمله من مكارم الأخلاق .
هذه صورة من مقاييس المحتوى والمضمون في كتاب العقد
الفريد ، وهي توضح أن المفاهيم الإسلامية ، ورسوخ القيم والأخلاق في المجتمع
الإسلامي ، أوجدت لدى النقاد المسلمين رؤية تختلف عن وجهات النظر السابقة ، حيث
قدم المقياس الإسلامي على المقاييس الأخرى ، كالعرف العربي ، والمقياس الفني أو
التأثري ، أو النقد القائم على التعليل والتحليل ، أو نحو ذلك مما أشرنا إليه .
ولعل تلك المثل الإسلامية ، هي التي جعلت من القاضي
الجرجاني ناقدا أدبيا بعد ابن عبد ربه .
والآن نجلي ـ بعون الله وتوفيقه ـ القول في "
المقاييس الفنية " التي عنى بها ابن عبد ربه لخدمة المعنى والمضمون ، لأن
الإطار أو الشكل الفني الذي ينظر فيه إلى جمال الصورة ، وتنسيق الأسلوب ، وحسن
التركيب والصياغة ، ومراعاة المقام عند النظم ودقته ، يؤدي إلى سحر البيان الذي
تتطامن النفوس أمامه ، لما فيه من الرقة والدقة واللطافة في النص الأدبي ، ولتحقيق
هذه الغاية تراعى قواعد النحو ، والبلاغة بفنونها المختلفة ، من مراعاة المعاني
والبيان والبديع ، وكل ذلك لخدمة المعاني ، والتصرف فيها وإخراجها في صورة أكمل
وأشمل ، وهي محاولات للابتكار والتجديد في الأساليب ، كما استفاد صاحب العقد
الفريد ، في تقويم نقده من نظرات وآراء السابقين عليه ، الأمر الذي جعل من كتابه
علامة بارزة في تراثنا الأدبي .
ومن المقاييس التي تلفت النظر عند ابن عبد ربه مراعاة
الجوانب العلمية في وضع الأساليب الأدبية ، وقد أمعن النظر وأدام الفكر واستعان
على صدق ذلك بوقائع وقصص راسخة في التاريخ الأدبي شعرا ونثرا ، وربما تكون هذه
النظريات قد طرقها قبله بعض المعنيين بالدراسة النقدية ، لكنه يركز في مواضع كثيرة
من كتابه العقد القريد ، على حسن استخدام القواعد العلمية ، التي لا يستغني عنها
في النظم وجمال الأسلوب ، غير أنه يحذر من الإفراط والإكثار من الجوانب العلمية
التي قد تقضى على الفائدة المرجوة . فالهدف من العلم توليد وبعث خواطر الذكر ،
لتنبيه الفكر ، وإثارة مكامن الإرادة لتحكم أسباب العمل الأدبي ، وإذن يكون العلم
ذِكْراً ثم فكرا ، ثم إرادة ثم عملا . فتحصيل العلم وحشوه والإحاطة به ، دون حسن
استخدامه ضرر لا فائدة فيه ، بل إن استعمال القليل من العلم ـ عند المقتضى ـ
كاستخدام الملح في الطعام " فقليل العلم يستعمله العقل ، خير من كثيره يحفظة
القلب " ([14])
ونفهم من كلامه أن الهدف من علوم اللغة إصلاح الأساليب ،
وخدمة العبارات والارتقاء بها ، حتى تبدو حلوة الاستعمال ، دنية القطوف ، سهلة
المأخذ متماسكة النظم ، خالية من اللحن ، دون إسراف في تقعيد القواعد ، وحشد
الشواهد فالعناية بالشكل لا تكون على حساب المضمون ، ولذا يقول " من أكثر من
النحو حمقه " ([15])
وليس معنى ذلك أنه يقر التحلل من القواعد ، وشيوع اللحن في النثر والشعر ، أو حتى
أسلوب الحوار ، فهو يورد قول عبد الملك بن مروان ([16])
" اللحن في الكلام ، أقبح من التفتيق في الثوب ، والجدري في الوجه "
وقوله " الإعراب جمال للوضيع ، واللحن هجنة على الشريف " وقوله أيضا
" تعلموا النحو كما تتعلمون السنن والفرائض " وقال رجل للحسن : إن لنا
إماما يلحن . قال : أميطوه عنكم ، فإن الإعراب حلية الكلام . وقال الشاعر :
النحو يبسط من لسان الألكن والمرء تكرمه إذا لم يلحن
فإذا طلبت من العلوم أجلها فأجلها منها مقيم الألسـن
وروى أبو عبيدة قال : مر الشعبي بقوم من الموالي يتذاكرون
النحو ، فقال لهم : لئن أصلحتموه ، إنكم لأول من أفسده . وقال رجل للحسن : يا أبو
سعيد ، فقال : أحسب أن الدوانق شغلتك عن أن تقول يا أبا سعيد .
وقال الشاعر :
النحو صعب وطويل سلمـه إذا
ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعربه فيعجمــه
وابن عبد ربه فيما تقدم لا يتهاون في معرفة القواعد ، التي
تصون الكلام من الخطأ الذي يشوه المعنى ، ويذهب بهاءه ويحط من قدر قائله ، بل يضع
قواعد النحو في مرتبة السنن والفرائض ، التي تصلح الدين والدنيا ، ولكن يصعب
الإحاطة بكل قواعد النحو ، وعلى من يريد إصلاح الأساليب والكلام ، أن يتخير من
القواعد ما يؤدي إلى هذه الغاية .
ويسوق ابن عبد ربه ـ في التدليل على نظريته ـ قصصا ونوادر
وتعليقات في " باب الإعراب واللحن " ([17])فقد
كان السابقون يتحرجون من اللحن ، لأنه يؤثر على المضمون ، وإيصال المعاني إلى الناس
، وهذا وحده يكشف لنا عن أسس النقد الفني عنده ، وأثره في تقويم النص وتجليته .
قيل لعبد الملك بن مروان : لقد عجل عليك الشيب يا أمير
المؤمنين ، قال : شيبنى ارتقاء المنابر وتوقع اللحن .
وقال المأمون لأبي على ، المعروف بأبي يعلى المنقري :
بلغني أنك أميِّ ، وأنك لا تقيم الشعر ، وأنك تلحن في كلامك . فقال : يا أمير
المؤمنين ، أما اللحن فربما سبقني لساني بالشيء منه ، وأما الأمية وكسر الشعر ، فقد
كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أميا ، وكان لا ينشد الشعر . قال المأمون :
سألتك عن ثلاثة عيوب فيك فزدتني عيبا رابعا، وهو الجهل ، يا جاهل إن ذلك في النبي
ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضيلة وفيك وفي أمثالك نقيصة ، وإنما منع ذلك النبي ـ صلى
الله عليه وسلم ـ لنفي الظنة عنه ، لا لعيب في الشعر والكتاب ، وقد قال ـ تبارك
وتعالى ـ : ﭽ ﮄ ﮅ ﮆ
ﮇ ﮈ ﮉ
ﮊ ﮋ ﮌ
ﮍﮎ ﮏ ﮐ
ﮑ ﮒ ﭼالعنكبوت:
٤٨
وكان عمر بن عبد العزيز جالسا عند الوليد بن عبد الملك ،
وكان الوليد لحانا ، فقال : يا غلام ادع لي صالح ، فقال الغلام يا صالحا ، فقال له
الوليد : انقص ألفا ، فقال عمر : وأنت يا أمير المؤمنين فزد ألفا .
وقال رجل لشريح : ما تقول في رجل توفي وترك أباه وأخيه ،
فقال له : أباه وأخاه ، فقال : كم لأباه وأخاه ، قال : لأبيه وأخيه ، قال أنت
علمتني فما أصنع ؟
وحكى عن بعض المغربين في اللحن ، أن جارية له غنته :
إذا ما سمعتُ اللومَ فيها رفضْتُهُ فيدخل من أذنٍ ويخرج من أخرى
فقال لها : من أخرى " بكسر الراء " أما علمتك
أن " من " تخفض ؟
ها نحن نرى صاحب العقد الفريد ، يتمسك بقواعد العربية في
الأساليب المختلفة ، حتى في لغة التخاطب التي تجري في مجالس العلماء والأمراء ، وأحيانا يتساهل في إيراد الكلمات دون تشادق أو تقعر ، إذا جرى
الحديث في طرفة أو نادرة أو ملحة ، ومفاكهة بين الإخوان فحكاية النادرة المضحكة
بالفصحى ، يطمس حسنها لو أراد أن يوفيها حقها من الإعراب " ألا ترى أن
مزبِّداً المديني أكل طعاما فكظه ، فقيل له : ألا تقي ؟ قال : وما أقي ؟ خبز نقي
ولحم طري ؟ مرتي طالق لو وجدت هذا قيئا لأكلته " .
ويذكر
باباً في اللحن والتصحيف ، يتحدث عن أعلام اشتهروا باللحن ، وعن استخدام بعض ألفاظ
اللغة في غير ما وضعت له ، أو تحريف الألفاظ مما يؤثر على فهم المعنى ، وإضاعة
المقصود من العبارة .. فقال : وكان أبو حنيفة لحانا ، على أنه كان في الفتيا ولطف
النظر واحد زمانه ، وسأله رجل يوما فقال له : ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب بها
رأس رجل فقتله ، أتقيده به ؟ قال : لا ، ولو ضربه بأبا قبيس .
ودخل
شبيب بن شيبه على إسحاق بن عيسى يعزيه عن طفل أصيب به ، فقال في بعض كلامه : أصلح
الله الأمير ، إن الطفل لا يزال مُحبنطا على باب الجنة يقول : لا أدخل حتى يدخل
أبواي ، قال إسحاق بن عيسى : سبحان الله ماذا جئت به ؟ إنما هو مُحبنطى ، أما سمعت
قول الراجز :
إني
إذا أنشدت لا أحبنطى ولا أحب
كثرة التمطي
قال
شبيب : ألى يُقال مثل هذا وما بين لابتيها أعلم منى بها ؟ فقال له إسحاق : وهذه
أيضا ، أللبصرة لابتان يالكع ؟ فأبان بتقريعه عواره ، فأخجله فسكت ، لأن الوقوف
على اللغة بضبط اللفظ واشتقاقه للمعنى المراد اساس التقويم .قوله المحبنطي :
الممتع امتناع طلب لا امتناع إباء ، وهو بالطاء غير معجمة ، ورواه شبيب بالظاء
المعجمة وقوله : ما بين لابتيها خطأ ، إذ ليس للبصرة لابتان ، وإنما اللابة
للمدينة والكوفة ، واللابة : الحرة ، وهي الأرض ذات الحجارة السود .
ويعرض
صاحب العقد الفريد ، مسائل كثيرة في النحو ، منها ما جاء موافقا للقواعد المشهورة
، ومنها ما هو مخالف لها ، ومنها ما هو من نوادر الكلام الذي له وجه عند العرب ([18])
فقد قالوا في تثنية الواحد ، وجمع الإثنين والواحد ، وإفراد الجمع والإثنين ، في
أشعارهم الكثير ، كما جاء في القرآن الكريم من هذا القبيل ومن أمثلة ذلك قول جرير
:
لما
تذكرتُ بالديرين أرَّقنــــى صوتُ الدجاج وقرعُ بالنواقيس
وإنما
هو دير الوليد معروف بالشام وأراد
بالدجاج الديكـــــة
ويورد
من أقوال العرب ما يفيد تذكير المؤنث وتأنيث المذكر ، كقول مالك بن أسماء ، ابن
خارجة الفزاري :
ومررنا
بنسوة عطـراتٍ وسماع وقرقفٍ
فنزلنــا
ما
لهم لا يُبارك اللهُ فيهم حين
يُسألنَ منحنا ما فعلنا
فلا
ديمه ودقت ودْقَهـا ولا ارض
أبقل إبقالهــا
فذكَّر
الأرض . وقال تبارك وتعالى : ﭽ ﯫ
ﯬ ﯭ ﯮ
ﯯ ﯰ ﯱ
ﯲ ﯳ ﯴ ﭼالحجرات:
٤
وإنما
ناداه رجل من بني تميم . وقوله : " والقى الألواح " وإنما هما لوحان .
ويتضح
من الأمثلة القليلة التي اخترناها مما عرضه ابن عبد ربه ، أنه يحاول تبرير وتسويغ
بعض الأخطاء التي يقع فيها الشعراء في تراكيبهم المختلقة ، ويضع بابا فيما "
غلط فيه على الشعراء " وهو هنا سابق للقاضي الجرجاني الذي اتخذ هذا المسلك في
كتابه الوساطة وتحدث عن " أغاليط الشعراء " .
ومن
دعائم النقد الأدبي تفسير النصوص ، وعرضها على استعمالات اللغة المتعددة ، مما
يجعل الاختلاف في المعنى بسبب استخدام كلمة دون أخرى ، ولذلك فإن ابن عبد ربه لا
يغفل هذه الجوانب ، فيفسر بعض الكلمات ، ويذكر لهجات بعض القبائل ، وما خالط
العربية من كلمات بعض الأمم الأخرى ، أو بعض الموانع التي تمنع اللسان من النطق
الصحيح ، إما في وضوح الصوت وخلوه من التمتمة ، والعُقلة والحُبْسة واللفف
والغمغمة والطمطمة واللكنة وغيرها ، وإما إنها مثل كشكشة بكر أو شنشنة تغلب أو غير
ذلك ، مما عنى بشرح مدلوله ومفهومه في إيضاح المعاني وتقريبها ، فقد يتفق اللفظ
ويختلف في المعنى .
دخل
على الوليد بن عبد الملك رجل من أشراف قريش ، فقال له الوليد : من حنفك ؟ قال :
فلان اليهودي . فقال : ما تقول ؟ ويحك . قال : لعلك إنما تسأل عن ختنى ([19])
يا أمير المؤمنين هو فلان .
وشرح
النصوص وتحليلها مع توجيه اللغة فيها والوقوف على قواعد النحو الصرف ، هي مجالات
عملية وتطبيقية في النقد الأدبي قديمه وحديثه ، إذ لا تخلو رسالة جامعية من النقد
اللغوي والصرف والعروضي والبلاغي مع نقد المنهج .
البلاغة
والبيان
الروح
التي يتمتع بها ابن عبد ربه ، هي روح الشاعر ، والأديب ، الكاتب ، وتلك الروح تسبح
في أزاهير التراث الحافل بقيم القرآن الكريم ،
وعبق الخلق النبوي ، فتجد في القرآن نمطا لن يصل إليه الإنس والجن ، وفي النص
النبوي جوامع الكلم ، وبهذه الروح يقيس النقد على أسس من البيان الأدبي والإتقان
اللغوي ، والنهج البلاغي وهو يرى أن النقد الأدبي يستمد كثيرا من مقاييسه من ضروب
البلاغة الصافية .
ومن هنا كان كتاب العقد الفريد مؤثرا قويا لدراسة البلاغة
والبيان ، لتقويم الأساليب وتراكيبها ، وتاثيراتها على النفس الإنسانية ، فالنصوص
ينظر إليها من خلال حسن البيان ، وتزيين العبارات والقرب من المعنى البعيد ،
والدلالة بالقليل على الكثير ، والطلاقة والجرأة دون تهيب المواقف ، مع السيطرة
عليها بحسن المقاطع ، والمطالع ، والبعد عن الإطالة التي تفضى إلى الملل ، والعمد
إلى ما يروح القلوب ، ويفكه الأسماع .
وإذا تأملنا الكتاب نجده يتوسع في الموضوعات السابقة ، وفي
غيرها بصورة تدل على براعة صاحبه وبعده عن الاحتذاء والتقليد ، وهو يكشف عن عمق
ثقافته وتنوعها من خلال تعدد مصادره ، ونرى اقتناعه بفكرته بعرض موضوعه مرة ومرة ،
واستقصاء كل ما من شأنه صقل وتجويد الأسلوب .
ففي معرض حديثه عن البلاغة يأتي بعدة تعاريف وحدود عربية
وغير عربية ، فالبلاغة عند سهل بن هارون ([20])
سياسة البلاغة أشد من البلاغة ، وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد : ما البلاغة ؟ قال :
التقرب من المعنى البعيد ، والدلالة بالقليل على الكثير . وقيل لابن المقفع : ما
البلاغة ؟ قال : قلة الحصر ، والجرأة على البشر ، قيل له : فما العي ؟ قال :
الإطراق من غير فكرة ، والتنحنح من غير علة ، وقيل لآخر : ما البلاغة ؟ قال :
تطويل القصير ، وتقصير الطويل . وقيل لأعرابي: ما البلاغة ؟ فقال : حذف الفضول ،
وتقريب البعيد . وقيل لأرسطاطاليس : ما البلاغة ؟ فقال : حسن الاستعارة. وقيل
لجالينوس : ما البلاغة ؟ فقال : إيضاح المعضل ، وفك المشكل . وقيل للخليل بن أحمد
: ما البلاغة ؟ فقال : ما قرب طرفاه وبعد منتهاه . وقيل لخالد بن صفوان : ما
البلاغة ؟ قال : إصابة المعنى والقصد للحجة . وقيل لآخر : ما البلاغة ؟ قال :
تصوير الحق في صورة الباطل ، والباطل في صورة الحق . وقيل لإبراهيم الإمام : ما
البلاغة ؟ قال : الجزالة والإصابة .
ولا شك أن تعريفات البلاغة كثيرة ، وأن ابن عبد ربه قد
وقف عليها ، ولكنه يختار منها ما يعبر عن ذوق الناقد المجرب إنشاء الشعر والنثر ،
ورأيه في البلاغة : القدرة على التصرف في الكلام بحسن البيان ، والسيطرة على
المستمعين أو القارئين وإقناعهم بوجهة نظره ، بحيث يسلمون بها ، ولا ينتظرون قولا
آخر بعد كلامه ، وذلك يقتضى حسن التصوير وجمال التعبير ، وإصابة المعنى القريب
بألفاظ قليلة ، وحسن الاستعارة بحذف فضول القول ، وكل ذلك يقرب الحجة ، بحيث يقنع
الآخرين في تصويره : الحق في صورة الباطل ، والباطل في صورة الحق . ومن الأمثلة
التي يوردها ويعجب بها ، ويعدها من الأجوبة المسكتة فقد قال النبي ([21])
ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمرو بن الأهتم : أخبرني عن الزبرقان ، قال : مطاع في
أدانيه ([22])
شديد المعارضة ، مانع لما وراء ظهره ، قال الزبرقان : والله يا رسول الله لقد علم
في أكثر من هذا ، ولكن حسدني . قال عمرو بن الأهتم : أما والله يا رسول الله ، إنه
لزِمَرُ ([23])
المروءة
، ضيق العطن ، أحمق الوالد ، لئيم الخال ، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى ،
ولقد صدقت في الأخرى ، رضيت عن ابن عمي فقلت فيه أحسن ما فيه ، ولم أكذب فقال
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن من البيان لسحرا .
ويتحدث
عن " فصول في البلاغة " ويعني بالبلاغة ما جاء في كتاب الحسن بن وهب إلى
إبراهيم بن العباس ([24])
" وصل كتابك ، فما رأيت كتابا أسهل فنونا ، ولا أملس متونا ، ولا أكثر عيونا ،
ولا أحسن مقاطع ومطالع منه ، أنجزت فيه عدة الرأى وبشرى الفراسة ، وعاد الظن يقينا
، والأمل مبلوغا ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات " .
ويركز
ابن عبد ربه على المعنى السابق ويؤكده في فصول أخرى من كتابه " العقد الفريد
" بما يعمق البلاغة ويصفها بما في النص الآتي ([25])
قيل لعمرو بن عبيد : ما البلاغة ؟ قال : ما بلَّغك الجنة ، وعدل بك عن النار ، قال
السائل ـ وهو حفص بن سالم ـ ليس هذا ما أريد ، قال : فما بصَّرك مواضع رشدك ، وعواقب
غيك ، قال : ليس هذا ما أريد ، قال : من لم يحسن أن يسكت ، لم يحسن أن يسمع ، لم
يحسن أن يسأل ، ومن لم يحسن أن يسأل لم يحسن أن يقول ، قال : ليس هذا ما أريد قال :
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنا معشر النبيين بكاء ـ أى قليلو الكلام ، وهو
جمع بكئ ـ وكانوا يكرهون أن يزيد منطق الرجل على عقله ، قال السائل : ليس هذا ما
أريد ، قال : فكأنك تريد تخير الألفاظ في حسن إفهام، قال : نعم قال : إنك إن أردت
تقرير حجة الله في عقول المكلفين وتخفيف المئونة على المستمعين ، وتزيين المعاني في
قلوب المستفهمين بالألفاظ الحسنة ، رغبة في سرعة استجابتهم ، ونفى الشواغل عن
قلوبهم بالموعظة الناطقة عن الكتاب والسنة ، كنت قد أوتيت فصل الخطاب .
هذه
قلة قليلة من النصوص والأقوال في حدود وتعريفات البلاغة ، تعبر عن آراء ابن عبد
ربه ، لأنها من اختياره ويبدو ميله إليها وإعجابه بها .
ومن
عيوب البلاغة وآفاتها في الخطابة ، استعانة الخطيب بالغريب ، وكذلك التشادق بالألفاظ
، ونظره في عيون الناس ، ومس لحيته ، والخروج على ما بنى عليه الكلام ، والتكلف ،
وقلة الدربة والثقافة ، وعدم تخير اللفظ وترديد الألفاظ ، وتكرير المعاني .
ويتضح
من نقد ابن عبد ربه ، أنه يميل إلى الإيجاز ، فيفضل الأمثال والتوقيعات ، لأن
الإيجاز أشرف الكلام كله حسنا ، وأرفعه قدرا ، وأعظمه في القلوب موقعا ، وأقله على
اللسان عملا ، ما دل بعضه على كله ، وكفى قليله عن كثيره ، وشهد ظاهره على باطنه ،
وذلك أن تقلَّ حروفه وتكثر معانيه .
ومن
مقومات الأساليب التي ترفع من قدرها ، دخول الكناية ، وهي من قبيل الإيجاز الذي
يحبذه ، وهي كثيرة في كلام العرب ، وفي القرآن الكريم ، كنايات لطيفة عن المعنى
الذي يقبح ذكره ، كالكناية عن الجماع بالملامسة ، وعن الحديث بالغائط وغير ذلك
كثير ([26])
وللكناية مع الإيجاز مجالات أخرى فهي توري بصاحبها عن الكذب أو الكفر وتعطيه فرضة
للتصرف وحسن التخلص من أشد المآزق ، ومن أمثلة ذلك : لما ولى الواثق وأقعد للناس
أحمد بن أبي داود للمحنة في القرآن ، ودعا إليه الفقهاء ، أتى فيهم بالحارث بن
مسكين ، فقيل له أتشهد أن القرآن مخلوق ؟ قال : أشهد أن التوراة والإنجيل والزبور
والقرآن ، هذه الأربعة مخلوقة ، ومد أصابعه الأربع فعرض بها وكنى عن خلق القرآن ،
وخلص مهجته من القتل .
وقال
معاوية لصعصعة بن صوحان : اصعد المنبر فالعن عليّا فامتنع عن ذلك ، وقال : لا ،
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : معاشر الناس ، إن معاوية أمرني أن ألعن
عليا ، فالعنوه لعنه الله .
وبعد
:
فإن
اللغة والتفقه فيها ، والنحو الإحاطة بقواعده التي تصلح الكلام ، والبلاغة وضروبها
بما يقتضيه المقال لكل مقام ، هي أسس ودعائم النقد الأدبي عند ابن عبد ربه ، وقد
سبق بها أساطين النقد ، وفتح للآمدي والقاضي الجرجاني وعبد القاهر ، مجالات واسعة
للوصول إلى النقد المنهجي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق