نظرات وعبرات
منذ زمن بعيد أحاول الكتابة في تاريخ الأدب
السعودي ، وكلما حاولت السير في البحث والاستمرار فيه ، شدني العمل وضيق الوقت ،
ولكنني وجدت موضوع " نظرات وعبرات " يفرض نفسه علىَّ فرضا ويسيطر على
تفكيري ، وخاصة عندما أدرس أو أبحث في الأدب السعودي ، أو أطالع الصحف والمجلات
الأدبية ، أو عند حديثي مع كبار الشعراء والأدباء في جنوب المملكة ، يتدفق الحديث
عذبا شذيا ، عن الأنصاري في كلمات الشاعر محمد على السنوسي ، ويذكرنا بما قاله في
المنهل وصاحبه .
أنا " المنهل
" الزلال " وأنصاري " إلى
الحق يرشفون رحيقي
" منهل
" فجرت يد الله مجــراه " بأم القرى
" ووادي العقيق
جدولا من جداول
الضاد فياضـا ونبعا من البيان
العريــق
منبري منبر
العروبة والإسـلام والشرق والهدى والسموق
أو ما قاله في المنهل عندما دخل عامة الثاني والأربعين :
منهلي ، منهل
البيان الرفيــع عشت كالنهر دافق الينبوع
تتهادى بك العلوم
ويـــزدان بك الفن رائعا كالربيــع
أدب يستمد من قوة
الـــروح معانيه في جمال بديــع
وقريض كما نفضت عن
الزهر نداه في فجر يوم وديــع
وللأنصاري ـ رحمه الله ـ مواقف في تشجيع
الأدب والأدباء ، يتحدث عن بعضها الشاعر محمد على السنوسي فيذكر : عندما رغب في
طبع أول ديوان له ، عرض الفكرة على عبد القدوس الأنصاري وأطلعه على شعره فأبدى إعجابه
الشديد ، وقال: إن مثل هذا الشعر جدير بأن يطبع ، لأنه لا يقل عن شعر الفحول ،
وأنه جمع بين الأصالة والطرافة والتجديد.
وفي القاهرة التقيا عند صديق الأنصاري
" محمد حلمي المنياوي " صاحب دار الكتاب العربي ، وتم الاتفاق على إخراج
" القلائد " وقدم له عبد القدوس الأنصاري بمقدمة هي : " قلادة
القلائد " لأنها من أروع ما كتبه ، وهي موضوع اعتزاز صاحب الديوان ، ودفعه
تشجيع له لا تقل عن تشجيع " المنهل " في نشر نتاج الأدباء ، كما يحكي
السنوسي عن نشر أول قصيدة له في عام 1359 هـ وكان عمره حينذاك ستة عشر عاما في
مجلة المنهل ..
وهذا الموقف يتكرر في الجنوب مع الشاعر
والمؤرخ محمد بن أحمد العقيلي ، فيما كتبه المنهل عن قصيدة " باقة شعر "
في ذكرى جلالة الملك عبد العزيز آل سعود للشاعر المذكور ، وتقريظ الأستاذ الأنصاري
لكتاب " المخلاف السليماني " فذلك مبدأ الأنصاري مع الأدباء والشعراء في
الجنوب والشمال ، في داخل المملكة وخارجها فجعل من " المنهل " كما يقول
القائل :
أتلقى رسالة الفكر
محفــو فاً بعون الإله والتوفيــق
ويدي تسند الأصول
وتجتث فروعا من الدخيل
اللصيق
فاء في ظل أيكتي
طائر الفن وغنى بكل لحن مشــوق
قصدت من هذه المقدمة التمهيد لموضوعي ، الذي
يتصل اتصالا وثيقاً بالأدب السعودي ، ذلك الأدب الذي يحتاج إلى دراسات تؤرخ له
وتعرف به ، وخاصة بعد أن لفت الأدباء السعوديون نظر النقاد والمؤرخين في الأقطار
العربية وفي المحافل الأدبية ، فعكفوا على دراسة شعرهم ونثرهم .
لقد ازدهر الأدب السعودي في حقبة قصيرة
بالقياس إلى أطوار الأدب العربي في العصر الحديث ، وهذه ظاهرة جديرة بالتصدي لها ،
ولكن ليس من السهل على كل باحث السير في هذه المهمة الصعبة والشاقة ، ولا يقدر
عليها إلا قلة قليلة حباها الله ببعض الخصائص ، وأتاحت لها الظروف فرصا مواتية ،
مكنتها من الإلمام بالوقوف على كل زواياها وأسرارها .
ويأتي في المقدمة عبد القدوس الأنصاري بحكم
ريادته في الأدب السعودي ، وعطائه المتجدد والمتعدد منذ بداية تكوين هذا الأدب إلى
تقدمه وارتقائه ، وقد جعل من داره ومنهله ندوة دائمة
للأدب يلتقي فيها كبار الأدباء والشعراء والمفكرين يقدمون إليه ، ويجتمعون عنده من
كل مكان من المملكة ، يتجولون جولات شتى في موضوعات تتصل بالأدب والفكر والشعر ،
ويتطارحون أحدث ما لديهم من القريض ، وتتجلى براعة بعضهم في مجالاته وفنونه
ورواياته ، فينشد من ذاكرته القوية مطولة تستحوذ إعجاب الحاضرين ، من أمثال محمد
سعيد العامودي ، ومحمود عارف ، وأحمد السباعي ، وحسن عبد الله القرشي ، وعبد
المجيد شبكشي ، عبد الفتاح أبو مدين ، ومحمد على السنوسي ، وشكيب الأموي وغيرهم .
ولعبد القدوس الأنصاري موقع شهد منه بداية كثير من الأدباء والشعراء
في مناطق الوطن المختلفة ، وسجل " المنهل " في رحابه الخصب ما دبجته
أقلامهم ، بل وجد بعضهم العون والتشجيع المعنوي فأثمرت كتاباتهم بعد حين أدبا طيبا
نافعا ، كما أن " المنهل " وصاحبه أسهما في نشر النتاج الأدبي للرواد
والتعريف بهم ، وخصص صفحات كثيرة لنشر وثائق أدبية مخطوطة في الشعر والنثر من
أواخر العهد العثماني وأوائل العصر الحديث .
من الأوليات التي كان يطيب للأستاذ الشيخ
عبد القدوس الأنصاري ـ رحمه الله ـ أن نذكر له " مجلة المنهل " التي ظل
يصدرها طيلة ما يقرب من خمسين عاما ، وتلك ظاهرة تسجل للراحل العزيز ، إذ فيها
صورة رائعة لقدرته على مسايرة جميع التطورات التي طرأت على الصحف والصحافة في
المملكة .
ومع أن المنهل قد ظلت تتميز بشخصيتها الخاصة
واختصاصها بلون ، حرص الأستاذ على التزامه طيلة هذه السنين ، وهو اللون الملتزم
بالاعتدال إلى حد فلا سبيل إلى الجدل في أنها قد استطاعت أن تسجل جوانب خاصة من
تطور الحركة الأدبية هي جوانب معايشة التراث ، والتزامات هذا التراث التي ترفض
التساهل في المساس باللغة وقواعدها ، إن لم يكن ذلك بالنقد ، فبرفض النشر ، وبهذا
يمكن القول إن المنهل ظلت تمثل الالتزام الذي ربما تحللت وتتحلل منه أغلب الصحف
عندنا .
ولعل ما ينبغي أن يعد من خصائص خلقه، حرصه
أن يظل بمنأى عن أي موقف يمكن أن يخرجه عن إطاره كعالم تهمه الحقيقة التي يراها ،
ويحرص على جلائها أكثر مما يهمه التجريح أو الافتئات سبيلا إلى الشهرة وبعد الصيت
كما فعل ويفعل كثيرون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق