العزف الحزين
في شعر إبراهيم صعابي
الشعر الصادق مرآة
تعكس شخصية الشاعر ، لأن الأسلوب هو الرجل ، كما يتفق على ذلك أكثر النقاد في
عالمنا العربي منذ أكثر من نصف قرن ، حتى نفرق بين شاعر صاحب تجربة إنسانية ،
وصياغة بجرس موسيقى في إطار وحدة فنية ، وموضوعية ، ومضمون ، يحقق الخير والحب والجمال والفضيلة ، وبين ناظم لا
يرتبط بشعره إلا من خلال الصنعة ورصف الكلمات .
وفي جنوب المملكة
قلة نادرة من الشعراء يعزفون عزفا حزينا ، ويمثل ظاهرة تستحق الدراسة والتقويم ، والبحث
عن أسبابها :
هل مرجعها التاثر
بالرومانسية ؟ أو البيئة الاجتماعية ؟ أو بسبب فشل في تجربة عاطفية ؟ أو بأسباب
عامة أخرى ؟
الشاعر الشاب
إبراهيم عمر صعابي " المولود في مدينة جازان سنة 1374 هـ " لا نبالغ إن
قلنا أن جل شعره تظلله كآبة ، وتسري فيه مسحة من الحزن الدفين ، ولن تسلم له قصيدة
واحدة في ديوانه ، ولا في شعره الذي لم يطبع في ديوان بعد ، فيبدو حزنه في غنائه
وغزله ، بل في غنائه لابنه الصغير ، وفي مناجاته لأصدقائه ، في حله وترحاله .. في
كل شعره يسمعك كلمات " الجراح ، البكاء ، اليأس ، الهم ، الوهم ، الأنين ،
العذاب ، الجحود .. " إلى آخر ما في المعاجم العربية من مثل هذه العبارات ..
وتلك ظاهرة يخلو منها شعر شباب الجنوب الذين يلتزمون بعامود الشعر العربي .
والشاعر كما يتضح
من المعلومات التي بين أيدينا يعيش حياة اجتماعية كريمة ، فقد تخرج من معهد إعداد
المعلمين الثانوي ، ثم حصل على شهادة عالية في الإدارة العامة ، وهو عضو في نادي
جازان الأدبي ، وأيضا في نادي أبها الأدبي ، ويحيا في بلاده كمواطن مثقف تظلله
الحياة الكريمة بالأمن والأمان ، ويتمتع بوظيفة في مستوى مرموق يغبط عليها ، حيث
وصلها في سن صغيرة بفضل طموحه العلمي والأدبي ، ونتاجه الأدبي منشور في الصحف
والمجلات ، كما نشر له النادي الأدبي ديوان شعر . هذه ملامح من حياة الشاعر
العلمية والاجتماعية ، فما هي حياته في عالم الشعر والخيال ؟
شخصية الشاعر في
ديوانه " حبيبتي .. والبحر " وفي شعره المنشور والمخطوط تختلف اختلافا
بينا وواضحا كما سنرى في السطور التالية .
يقدم الشاعر ديوانه
بإهداء يعطي أضواء على شخصيته الفنية ، ويكشف عن ارتباطه الأسري ، فهو إلى أمه
" التي لم أقل لغيرها بإحساس صادق .. أحبك " وخصها بقصيدة داخل الديوان
" إلى حبيبتي أمي " .
كيف
أنساك وفي قلبي هوى صاغه النور
حروفا في لساني
كيف
يا أماه أنسى قبلـــة
ويدا كل مناها في احتضانـي
وأشرك في الإهداء
والده " الذي تلذذ بالسير على الشوك ليقطف لي الورد !! " وصديقه "
الطائر المهاجر في بلد الصقيع " وإليها !! " في لحظة كبرياء صاخبة ..
ترفض كل شعور مزيف " : فهما يعيشان في روح الشاعر التي تحلق بين أغصان
الزهور:
تبكي بآهات النـــوى تشدو بأسرار الحبورْ
تغزو المشاعر بالمنــى بالشوق بالحب الغيورْ
فالشاعر من أول
قصيدة ـ بعد الإهداء ـ تبكي روحه بآهات النوى .. وتسرى إلى ليل الأسى .. ولذا
فالشاعر تتعثر خطاه ، ويحتاج إلى من يقاسمه الهموم ، كما نرى في قصيدة " صديقي
" التي لم تنشر في الديوان ، ونظن أنه الطائر المهاجر :
صديقي كم يناصفني أسايـا ويسعفني إذا عثرت خطايا
ويحمل في الضمائر كل حب تقبله الأماني في الحنايـا
وإذا فتشنا عن
أسرار ظاهرة الحزن التي جعلت من الشاعر عازف أحزان فقد نكتشف دوافعها ، ولكني آمل
أن يتقبلها الشاعر بنفس راضية ، لأنها تتعلق بتعليل ظاهرة أدبية ، والتعليل الأدبي
الجاد يرتفع عن المجاملة والمديح ، فالنتاج الفني إذا خرج من الصدور إلى السطور ،
فلابد أن يخضع للنقد والتقويم .
ومن حق القارئ أن
يسأل عن دوافع الحزن والأنين والبؤس والأسى ، في شعر شاب تضحك الحياة من حوله ،
ويتغنى الشعراء من حوله بجمال الطبيعة ، التي حباها الله بكل معطيات الخير والنماء
، وربما يحاول الشاعر الإجابة في قصيدة " الحب والإنسان " التي جاءت في
الديوان ، وكتب تحتها كلمة لم ترد في ديوانه يقول فيها " غلى الذي أوحى إلى
بهذه القصيدة ، بعد أن رسمت أبعاد كلماته في مخيلتي ، الأستاذ الشاعر محمد حسن فقي
" وربما سئل عن أسباب الظاهرة التي نعنيها فكان الجواب :
يا نديمي ان الكؤوس خوالي من أسى الحب من ضنى الآمال
من بكاء الزمان في دمعات هي لحن ينغمة الاحتيــــال
ثم يقول :
لا تسلني عن صبوتي عن غرامي بل فسلني عن موكب الإجلال
لا تسلني يا صاح إن حياتـــي قد تناهت من وقفة
الأطـلال
لا تلمني يا صاح إن صـــرخ الإنسان في داخلي
وفي أقوالي
ففي نشأة الشاعرـ
إلى جانب ما ألمحنا إليه ـ أحداث أثرت على حسه ، وغذت ثقافته ، وأوجدت في شعوره
الحزن والغضب ، حيث فتح عينيه وقلبه على نكبة فلسطين ، وتجرع كئوس الثقافة في
المرحلة الابتدائية بصداها ، ونهل في المتوسط من جرعات نكبة العرب في سنة 1967 م
حيث اتجه الشعراء إلى هذا الخطب الجلل ، من أمثال محمد حسن فقي ، وطاهر زمخشري ،
ومحمد على السنوسي ، ونزار قباني ، وحسن عبد الله القرشي ، الذي أوقف الكثير من
شعره لأحداث الأمة العربية ، وخصها ببعض الدواوين مثل " لن يضيع الغد "
وغير ذلك :
ولازالت ملامح
الوقائع في العالم العربي تدور بكؤوس الردى والأسى ، على أبناء هذه الأمة ، مما
يؤثر على وجدان الشعراء الكبار ، كما في قصيدتي " نهر من الدم " و
" بيروت " للدكتور غازي القصيبي ، الذي هو المثل الأعلى لشباب الشعراء .
ويستطيع المتأمل في
ديوان الشاعر وفي شعره الذي دبجه بعد ذلك ، أن يقف على مأساة أخرى نفسية لهذا
الشاعر ، إنها الحب الذي تحطم في لحظة كبرياء صاخبة ، لرفض كل شعور مزيف ، فاصيب
بالإحباط الذي تكشف عنه قصائده التي جاءت بعد طبع ، ديوانه ، مثل " لعبة
الغضب " وفيها يقول :
لا تقربي .. فالنار في شهبي
تغتال كل منافذ الهـــرب
وقصيدة " الحب
المزور " ويقول في مقدمة لها " إلى من أحييت مشاعره فرمى مشاعري ، على
الطريق حطام ذكرى ورماد نسيان :
كنت طيفا في حياتي وسرابا .. ليس أكثر
فإذا شئت تناســى وإذا شئت تذكــر
وفيها يقول :
يا خريفا من ضياع وهموما تتفجــر
يا حبيبا كان كــل كل ما فيه تغيــر
ويقول في قصيدة
" حب الكلمات " :
شكوت من الأحباب ظلما وجفوة وكم
حرت من أمري لموت شكاتي
فأين نسيم الفجر أين هبوبـــه ومالي فجر في دنا البسمـــات
ويختم القصيدة
بقوله :
واصرخ فيها لا أبالي بسامــع سأسكب للأحزان كل دواتـــي
ومثل هذه النغمات
نجدها في قصائد " أنا الجراح " و " سمراء " و " هموم قلب
" وهي من القصائد الطويلة المعبرة عن تجربة الشاعر كما في قوله :
حسبها أن هواها يتحــــدى فيعاني من جراح الحزن شاكي
وفيها يقول أيضاً :
اترع الأحزان من كأس الأسى لا أبالي بالأماني حولنـا
تنشد الشعر بأنات الجــوى ليتها كانت سرابا من منى
ويكشف الشاعر عن سر
مأساته التي طبعت شعره بهذا الطابع في قصيدته " هموم قلب " :
ضاع ذاك الحب ما أحرى ضياعه وفؤادي للرؤى أذكى التياعه
وصدى الأمواج في نفسي قبــح ينشر الحقد ولم يطو
شراعه
يملأ الدنيا هموما واكتئابــــا وخريفا يجعل الحب
بضاعة
أصدقائي ظلموني فنســــوا أن في قلبي من
الظلم مناعة
وكم كنت أتمنى أن
أجد قصيدة واحدة تخلو من أنات الشاعر وبكائه ، ويقبل على الدنيا بالبشر والتفاؤل
وينسى الجراح ، ولكنه من أولئك الشعراء الذين يحبون النكد والمعاناة ، وربما فعل
ذلك ليعمق تجربته الشعرية ، لأن الشعر لا يقوى إلا في الشر كما يقول النقاد ، والا
فما ذنب " جازان " التي ترقد على البحر في سحر خلاب ، فيغنى لها شعراء
الجنوب ، ويتقدم شاعرنا ليغنى لها ، فإذا الغناء نحيب ودمعة ورحيل وبكاء وأنين :
أنا حب ودمعة ورحيــل واشتياق في
غدوتي وإيابــي
اعذريني إذا بكيت فإنــي أسكب الدمع في سطور عتاب
لست حزنا ولا إليه أنـادي أنت حزني وفرحتي وعذابـي
إنه الجرح في زوايا شجوني عاصفا بالهوى بغير حسـاب
ويحول الشاعر بعض
قصائده إلى رسائل من وهم يتحدث عن رحيل الغرام ، لأنه يشكو ألم الجراح حتى تحول
قلبه كقلب الحزن ـ على حد تعبيره ـ لا يرجو الفرح ، يكره الصحاب ، ويحب البعد عنهم
بالرحيل في مملكته الشعرية التي أحبها ، حيث " يرحل الفؤاد إلى مسار جحيمه
" ويؤثره على عالم الحقيقة الذي فيه :
يقتل الخل خله ويــداري لحظة الحب
في عمق الرمال
ما الذي أضحك الربيع وفيه يقتل الشوق والغرام المثالي
ما الذي ألبس الحياة جمـالا وهي قبح ينام في الأوحـال
عجبا يسألون عن دمعـاتي وحكايات غربتي
واعتزالي
عجبا يرفضون يأس حروفي وحروفي تنوء بالأثقــال
وعبارات أسطري من زمان تتوارى بعالم من خيــال
قتلوا في قصائدي كل حـب قتلوها بخنجر الأهــوال
وتتوالي الصورة
الشعرية التي تجسم تجارب الشاعر على النحو السابق " الخل يقتل خله " و
" الربيع يقل فيه الغرام المثالي " و " الحياة قبح ينام في الأوحال
" ، وهي صورة قاتمة مخيفة دفعت بالشاعر إلى الانطواء والاعتزال ، وهو يعلم أن
الشعر دعوة إلى الخير والحب والجمال ، وإذا كانت نظرات بعض الشعراء القدامى
والمحدثين إلى الحياة في بعض الأحيان بشيء من التشاؤم والحزن ، على نحو ما فعل
حافظ إبراهيم ، فأجاد في فن الرثاء والحزن ، ووصف شعبه ، ولكنه مع ذلك كان فكها
ومرحا ، حتى في أشد الأحداث ضراوة يتهكم من الإنجليز في حاثة دنشواي مثل قوله :
أيها القائمون
بالأمر فينا هل نسيتم
ولاءنا والودادا .. ألخ
وعلى الرغم من أن
ظروف شاعرنا إبراهيم صعابي ، خالية من الظروف الاجتماعية التي مر بها حافظ إبراهيم
، فإني كنت آمل أن أرى قصيدة تسرى فيها البسمة من أولها إلى آخرها ، وها هي
الكلمات تغنى بهوى القلب ، ويلمس النور في أعماقه .. ولا تمضي إلا أبيات قليلة حتى
يعود إلى سيرته الأولى ، فمرساه بعيد ، وزورقه تائه في موج عات ، وهو يعاني من
جراحاته ، وهو يحب الجرح ، لأنه جزء من سماته :
وأخيرا .. ضاع فجري
.. وطريقي ضيعتني وتناستني حياتي
وبعد أن ضاع الفجر
والطريق ، وهو تعبير عن قمة المأساة ، يحدثنا في قصيدة ، هذه استقالتي ـ أيها الحب
:
ها أنا من صحوة الشعر أغنى حسبي الأحزان رمزا وشعارا
وفي " صور من
رحلة العمر " :
صورتي صورة الأمي
وعمري عمر أحزاني وأيام الأنيــــن
وفؤاي ظل يشكو سأمــــا صاخب الموج على مر السنيـن
هذه قصة قلب راحـــــل بين قصف الرعد والحزن الدفين
وهناك قصائد أخرى
في الديوان وفي شعره الذي لم يطبع مثل " كفى يا قلب " و " من ذاكرة
الحب " و " اغتيال وعبث " و " لعبة الغضب " وغيرها وكلها
تسير في مضمونها مع الآلام والحزن ، والأنين والشكوى وصخب الموج ، والقصف والرعد
الذي يعبر عن الحزن الدفين .
إن ما عرضناه ، أو
أشرنا إليه من شعر الشاعر ، في مظهره ومضمونه ، نسيج وحده في شعر الجنوب ، وظاهرة
فريدة تستدعي متابعتها ، لأنه يعبر عن شخصية تتميز عن أترابها ، وهذه الشخصية في
سلوكها العملي ، تتقيد بقيود الحياة وتلتزم بالسلوك السوي ، وتلك هي التجربة
الشعرية التي عناها النقاد ، ولا ننكر على الشاعر أكثر مما أومأنا إليه في موضعه ،
ورحم الله صاحب " النقد الأدبي الحديث " الدكتور غنيمي هلال ، الذي قال
: " ويجب التفريق بين شطري شخصية الشاعر : الشعري ، والعملي ، فالشطر الأول
مثالي ، يحكي فيه ذات نفسه كما هي ، ويصف مثله وأهدافه ، وآماله وآلامه ، والثاني
عملي يتقيد فيه بقيود الحياة ، كما هي من حوله .. "
الصديق العزيز الأستاذ الدكتور: عبد الباسط حمودة . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . أرغب التواصل معكم والاطمئنان على صحتكم . تقبل خالص الدعاء بصلاح الدارين . أخوكم إبراهيم عمر صعابي .
ردحذف