عبد القدوس الأنصاري ومقومات الريادة

عبد القدوس الأنصاري ومقومات الريادة
كلمة الذكرى قد يكون لها رنين وصدى في دنيا الخاملين ، أما أولئك الرواد من العلماء والأدباء والشعراء والمفكرين ، فهم في حياة دائمة في وجدان أمتهم ، وفي خطوات مسيرتها ينيرون الطريق من خلال عطائهم المتجدد في فكر وأذهان الباحثين والدارسين ، فيعيش هؤلاء في أمتهم بآثارهم وأعمالهم جيلا بعد جيل .
وإذا كانت هذه الأيام توافق موعد رحيل عبد القدوس الأنصاري ، فإنما هي تعني موعداً لسفر رجل عظيم رحل عن وطنه .. وكل ما لدى أهله ومواطنيه يذكرهم به ، وهو يحيا حياة دائمة في عالم الفكر والأدب واللغة والتاريخ ، ويتجدد بأعماله وآثاره في أذهان وعقول أهله وأصدقائه وأبناء أمته ، في كل يوم وساعة وفي كل رسالة ومقالة ، وفي كل بحث يكتب عن نهضة الأدب السعودي .. وسيظل المنهل وصاحبه مصدرا من مصادر هذا الأدب .
مقومات الريادة : نعني بكلمة الريادة معناها بمفهومها الواسع ، الذي يجعل من الإنسان مرشداً إلى مجامع الخير وضروب السعادة بكل إخلاص ، دون أن يكذب على أمته وترجع مقومات الريادة عند عبد القدوس الأنصاري " 1324 – 1403 هـ / 1906 – 1983 م " إلى عدة عوامل ، أهمها شخصيته في تكوينها التربوي والثقافي ، ومنها إصداره لمجلة " المنهل " وجعلها مدرسة للفكر العربي والإسلامي ، وجامعة يربط من خلالها أجيال الأمة في عصر طغت فيه الثقافة الدخيلة لتفرق بين أبنائها ، وتجعلهم أحزابا وشيعا فلا تجدي كثرتهم مع تباين أهوائهم ، ومن عوامل ريادته أيضا ندوته الأدبية والفكرية التي تجمع كل نابه ولبيب ، من أجل دفع المسيرة على طريق الحق والخير والفضيلة . ومن مقومات الريادة عند الأنصاري مؤلفاته المتعددة والمتنوعة في ثقافتها واتساع جوانبها وتناولها لموضوعات مبتكرة في الأدب السعودي ، فخرج إلى العالم العربي بمفاهيم جديدة في إطار الأصالة ، ونعنى بالأصالة في شخصية الأنصاري .. أصالة المنبت والبيئة .. وأصالة الفكر والثقافة ، وأصالة العقيدة التي ألهمته أصالة المبدأ . تلك سمات يسهل على الباحث ردها إلى كل أعماله التي بين أيدينا وهي لا تنفصم عن الأصالة المستمدة من العروبة والإسلام .
شخصية الرائد : وبقليل من التفصيل في الجوانب المتقدمة من مقومات الريادة التي نحن بصدد الحديث عنها ، نقف مع شخصية الأنصاري التي أثرت في دوره الريادي ، فنشأته في رحاب أرض النبوة في بيئة المدينة المنورة فصقل هذه الشخصية .. ونهل منابع ثقافته العربية الأصيلة في ظلال الروضة والمسجد على يد كبار العلماء حتى نال الشهادة العالمية ولا شك أن ثقافته تلك تبتعد عن كل شائبة دخيلة على الثقافة الإسلامية ، شأنها شأن الدراسة القديمة في الأزهر الشريف .. لأن هذا النوع من التعليم يستلهم كتاب الله ، والسنة النبوية المطهرة ، وينعكس صداه على نتاج الأديب أو الشاعر ، فيسير على نمط الجملة القرآنية وتتوق النفس إلى الاغتراف من موارد المعرفة من كل جنس ولون ، ولكنها لا تطغى أو تتنكر للثقافة التليدة .
وهذا هو سر نجاح الكثيرين من روادنا في الشرق الإسلامي ، أمثال جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده والمنفلوطي
، والرافعي ، والعقاد ، وسيد قطب ، والأنصاري ، وغيرهم .. يقول إبراهيم فلالي ([1])" أعرف عبد القدوس الأنصاري ويعرف الأدباء ، في بلادنا وهو الشخصية الوقورة ذات الكلام الموزون ، الذي لا يزيدحرفا ولا ينقص حرفا في أداء المعنى الذي يريده وهو في كتابته مثله في كلامه مثله في شعر ، وهو رائد من رواد الأدب الصحيح الذي لا يأخذ بالبهرج ولا يؤخذ به ينفذ إلى الحقائق دون أن تخدعه التهاويل " .
ويتفق طاهر زمخشري وعزيز ضياء ، ومحمد السنوسي ، ([2]) وأحمد عبد الغفور عطار ، وحسين عرب ، ([3]) ومحمود عارف ([4]) وغيرهم على أن الأنصاري نمط فريد في الريادة من حيث العطاء والإخلاص في التوجيه والتفاني في الإيثار بإعطاء الفرصة لكثير من الأدباء والشعراء من الناشئين ، بل وغير الناشئين في المملكة العربية السعودية وفي غيرها وعدم الضن بالمساعدة بعلمه وأدبه وفي كل موقع وطور من أطوار حياته ، في مجال الوظيفة وحين تولى رياسة تحرير صحيفة " أم القرى " ومنذ إصادره " للمنهل " وعن طريق ندواته التي كانت تضم قادة الأدب والفكر في العالم العربي ، من أمثال على أحمد باكثير وغيره من أساطين الشعر ، فنون الأدب .
وكان الأنصاري لا يضيق بالنقد الجاد ويرى أن ذلك يرسى قواعد الفن الأدبي ، ويرتقي بمستواه فكان يخصص صفحات كثيرة في مجلة " المنهل " لتستوعب المعارك الأدبية ، كما كانت له مطارحات أدبية بينه وبين محمد حسن عواد على صفحات " البلاد السعودية " وله مناقشات أدبية وعلمية في ميادين أخرى ، تمخضت كلها عن الروح العلمية والريادية وشهدت له بالفضل ورسوخ القدم .
وحسبنا أن نذكر في هذا المقام واقعة تدل على مكانة الأنصاري في المجتمع العربي ، وقد رواها أحمد عبد الغفور عطار ([5]) حين ذهب الأنصاري والعطار إلى ندوة العقاد ، وكانت تضم الصفوة الممتازة من الشعراء والأدباء والمفكرين " وثار جدل بين العقاد والأنصاري، وكان العنف في أسلوب الأنصاري ، واللين واللطف في أسلوب العقاد . وعجب الحاضرون من لين عريكة العقاد المعروف بشدته ، فقال لهم : من العقاد بجانب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أكرم الأنصار ، وأوصى بهم كل خير ؟ إذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير الخلق يكرمهم ، أفلا يكرمهم العقاد ؟ وهل بلغ العقاد من سوء الأدب حتى لا يحترم أنصاريا لعلمه وفضله وجواره لرسول الله ؟ " .
ومن الجوانب التي تشهد للأنصاري بعلمه وسعة اطلاعه مؤلفاته في وقت مبكر من حياته ، والتي اعتمد عليها كبار الباحثين واسترشدوا بها في فتح ما استغلق عليهم ، فها هو محمد حسين هيكل صاحب المؤلفات الإسلامية المعروفة يشيد في عام 1355 هـ / 1936 م بكتاب " آثار المدينة " ويقول عنه " .. وما لبثت حين اطلعت على محتوياته أن رأيت مهاجر النبي الكريم انفتحت أمامي مغالق آثارها ، وأصبح من اليسير تتبعها في أماكن وجودها ، وتتبع تاريخها والأطوار بها خلال هذا الكتاب الوجيز الجامع " ([6]) وللأنصاري في هذا الاتجاه كتاب آخر هو " طريق الهجرة النبوية " تحدث فيه عن أحداث الهجرة ومعالمها التاريخية والآثارية ، وجمع فيه القصائد والملاحم التي قيلت في هجرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في القديم والحديث .
وتبرز قوة شخصيته في مؤلفه " مع ابن جبير في رحلته " ويكشف عن أخلاقه وتحليه بالصبر والكتمان من خلال اختياره وعرضه لأدب ابن جبير ، وتمثله بأشعاره وأقواله التي منها ([7]) :
عليك بكتمان المصائب واصطبـر            عليها فما أبقى الزمان شفيقا
ويكفيك في الشكوى إلى الناس أنها           تسر عدوا أو تسوء صديقـا
ومن سمات شخصية الأنصاري التواضع وترك المظاهر الزائفة فهو يتمثل قول القائل :
إن لله عبادا فطنـــا                              طلقوا الدنيا وخافوا الفتنـا
نظروا فيها فلما علموا                         أنها ليست لحر وطنـــا
جعلوها لجة واتخذوا                            صالح الأعمال فيها سفنـا
ويتمثل أيضا قول ـ الله تعالى ـ : ﭵ  ﭶ    ﭷ   ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  الأعراف: ١٩٩ وقوله تعالى : ﯙ  ﯚ  ﯛ  ﯜ  ﯝ  ﯞ  الفرقان: ٦٣ ، وقول الشاعر :
تنزه عن العوراء مهما سمعتها         صيانة نفس فهو بالحر أشبه
إذا أنت جاوبت السفيه مشاتما        فمن يتلقى الشتم بالشتم أسفه ([8])
ولعل ذلك يكشف عن علمه وسعة ثقافته التي أشرنا إليها في تكوين شخصيته ، وفي ذلك يقول الشاعر الكبير طاهر زمخشري في حديثه لصحيفة عكاظ " لقد ذكرت بصراحة في أكثر من مرة أن عبد القدوس الأنصاري ـ رحمه الله ـ هو الأديب الوحيد الذي صحح لي قصيدة ، وكذلك هو الأديب الوحيد الذي وجهني ، وحقيقة فإن عبد القدوس الكاتب والمؤرخ والشاعر المجيد والصحفي ([9]) .
مدرسة المنهل : ومن المقومات التي تضع الأنصاري في مقدمة الرواد ، إصداره مجلة " المنهل " في عام 1355 هـ/ 1937 م لتكون أول مجلة أدبية ثقافية متخصصة في المملكة العربية السعودية ، تشرق على العالم العربي وتقف مع مجلة الرسالة ، التي صدرت في سنة 1933 م  لأحمد حسن الزيات .
وعلى الرغم من تواضع امكاناتها ، ومواردها المادية ، ارتقى بها إلى مصاف المجلات الكبرى ذات النهج الإسلامي المعتمد على التراث الحضاري ، مثلها مثل مجلة الثقافة التي زامنتها في الصدور .
ولو تصدى أحد الباحثين في الدراسات الأدبية لأثر " المنهل " لأثبت ـ بالاستقراء ـ أنها أدت رسالة في مجالها قد تعجز عنا بعض الكليات المتخصصة ، من حيث الثقافة وتنمية الأدب الرفيع ، ونشر المعارف والعلوم ، وتوثيق الصلات بين أبناء العربية والإسلام والتصدي للهجمات المعادية بصورها المختلفة ، ولأوضحت الدراسة أن " منهل " عبد القدوس الأنصاري ، وقف في خندق واحد مع " رسالة " أحمد حسن الزيات " وثقافة " أحمد أمين ، في حمل لواء الثقافة العربية الأصيلة المستلهمة من حضارة الإسلام .
لقد ظلت مجلة " المنهل " على مدى السنوات الخمسين الماضية ، تؤدي رسالتها وتقاوم كل تيار مشبوه يكيد أو يدس للإسلام ، أو ينال من اللغة العربية .. ووقفت ضد كل الأنظمة الإلحادية في صورها الظاهرة والخفية .. وسلطت الأضواء على العداء للغة القرآن ، تحت شعار الثقافات الحديثة ، التي يمولها ويغذيها الاستشراق والتبشير ، عن طريق كتائبه الموفدة إلى الشرق ، أو بواسطة ربائبة في بلاد الإسلام .
أوضح المنهل بأصالته مضار هذه الثقافات ، وكشف عن سموها ، وواكب العصر بتطوره وحدته ، واحتوائه لكل طريف وتالد ، ليجد القارئ فيه بغيته ويعزف عن غيره ، من المجلات التي تشوبها الشوائب .
وبالوقوف على بعض مجلدات المنهل في سنواته المختلفة ، يتبين لنا أنه كان مدرسة بكل معاني الكلمة وأبعادها وبكل مقاييس النقد الأدبي الحديث ، وربما يقوم بعض طلاب الدراسات العليا في جامعاتنا العربية بعمل أطروحة لنيل درجة علمية في ذلك ، كما حدث في دراسة مجلة " الرسالة " . ولا شك أن تقويم " المنهل " ودراسته منذ إنشائه ، يرشد إلى مدرسة كبيرة تدفقت برفيع الأدب ، وألوان المعارف والعلوم ، المنتشرة في مجلداته تحت أبواب ثابتة ومتغيرة ، وفي موضوعات مختلفة مثل الإسلاميات ، والثقافيات ، والتاريخيات ، والأدبيات ، والشعر ، والقصص ، ومعرض الآراء وميدان النقد والبحوث اللغوية والطرائف والجديد في العلوم ، وأخبار التراث وعالم الكتب ، إلىجانب مواكبة الأحداث وبريد القراء وباقات الأنباء ومتابعة أخبار الأدباء والعلماء ووفيات الأعيان وغير ذلك مما يحتاج إلى دراسات
 مفصلة .
يقول الشاعر الكبير محمد حسن فقى في قصيدة بعنوان " قم حي منهلنا الأبر " ([10]) :
قم حي منهلنا الأبـر           في يوم ذكراه الأغـر
حي السنين الحافـلا           ت الخاليات من الهذر
حي الرجال العاملين          السائرين على الأثـر
الشارعي الأقلام في           وجه الحماقة والبطر
والباذلي لأرواح ما            يخشون عاقبة الخطر
ويقول السيد على حافظ من قصيدة بعنوان " خميلة الأدب العالي " ([11]) :
يا منهلا فوق هام المجد مثواه         وبين بدر السماء الشهب مجراه
منابع العلم من أنهاره انطلقت         وروعة الفن من إبداع يمنــاه
ويقول أنور الجندي ، في صاحب المنهل ([12]) " هو مثل رفيع للصحفي المسلم حتى أطلق عليه " شيخ الصحافة الإسلامية " .. أما عبد القدوس فهو معنى بمجلته الأثيرة " المنهل " التي يصدرها منذ نسف قرن والتي تدرج بها حتى أصبحت تستكتب كتاب المسلمين ، من أندونيسيا إلى المغرب ، وعنايته أكبر بالأدب والقصة والشعر وهي دائما تحفل بالجديد .. "
هذه لمحات عابرة عن مقومات الريادة في شخصية الأنصاري ، ومن نافلة القول أن نزعم لبحثنا المتواضع الإحاطة بجوانب الرجل المتعددة ، أو الوقوف على كل مقومات ريادته ، وحسبه أنه مجرد دعوة لدراسة شخصيته في ضوء عطائه الواسع ، وأن تكون هذه الدراسة أكاديمية يحتذيها الجيل الجديد ، ويضعها في مكان القدوة .
ولله در شاعر الجنوب محمد بن على السنوسي حيث عبر بإحساسه الصادق ، عن مشاعره ومشاعر كل عربي في قصيدته " أبا نبيه لك الغفران " ويستهلها بقوله :
يا صاحب القلم المتألق السامي       ويا أبا المنهل المتدفق الطامـــي
لقد تقطعت لما جائني خبــر                    كالضرب بالسيف من خلفي وقدامي
وفيها يقول :
تنأى خلائقك الشماء عـن أدب               إن لم يكن عربي الذوق إسلامي
وتستريب إذا جائتك في قحـة                   مقالة نسجتها كف هــــدام
نهج من الأدب النفسي كنت به       نسيج وحدك في فكر وإلهــام
ثم يختم القصيدة بقوله :
" أبا نبيه " لك الغفران ما سطعت             شمس الضحى وتوارت خلف إظلام
فإن منهلك العذب الذي شربـت        منه القلوب زلالا نهره طامـــي
مازال غضَّاً طريَّاً زاهراً بابـي                 زُهير يلمع في صَحْوٍ وإقتــــام



([1])المرصاد ص 191 منشورات النادي الأدبي بالرياض 1400 هـ .
([2])عكاظ العدد 6157 في 26/6/1403 هـ .
([3])عكاظ العدد 6157 في 26/6/1403 هـ .
([4])المنهل عدد ربيع الأول 1391 هـ .
([5])اصداء قلم ص 86 .
([6])انظر " آثار المدينة " ص 30 1393هـ / 1973 م .
([7])مع ابن جبير في رحلته .ط .1 .
([8])مع ابن جبير في رحلته .ط .1 .
([9])عكاظ العدد 6157 في 26/6/1403 هـ .
([10])المنهل السنة38 المجلد 33 المحرم 1392 هـ ، مارس 1972 م .
([11])المنهل السنة38 المجلد 33 المحرم 1392 هـ ، مارس 1972 م .
([12])المنهل السنة 51 المجلد 46 المحرم وصفر 1405 هـ نوفمبر 1984 م .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق