مع الشعراء والوجه الآخر للسنوسي

" مع الشعراء " والوجه الآخر للسنوسي
تعاطف السنوسي مع الرافعي .. والقرشي مثال الشاعر الفنان
لنحب طه حسين ولكن .. لنحب الحقيقة أكثر منه
كثير من الناس يفهمون أن الشعراء مهمتهم قرض الشعر والتحليق في عالمه الفسيح لا يتجاوزون حدوده ،وأن الكتاب يقفون عند الكتابة النثرية بكل ألوانها ولا يتطرقون إلى القريض ونظمه ، ولكن الواقع في التاريخ الأدبي غير ذلك ، فكثير من الشعراء هم أساطين في الكتابة ، وكثير من الكتاب كانت بداية تجاربهم الأدبية في رحاب الشعر ، والأمثلة كثيرة في الأدب القديم والحديث .
وفي الأدب السعودي نجد كثيرا من الشعراء مثل أحمد عبد الغفور عطار ، ومحمد حسن عواد ، وعبد القدوس الأنصاري ، وغازي القصيبي وغيرهم في عالم الشعر ، ولكنهم أيضا يباشرون الكتابة والنقد الأدبي ، بل إن بعضهم تفرغ للكتابة والفكر ، ونبغ في هذا المجال بعد شهرته بين الشعراء .
ويشهد جنوب المملكة سوقا للكتابة الأدبية والنقدية ، تذكرنا بعراقة الفكر والأدب في هذه المنطقة ، وتبرز في الكتابة المعاصرة معارك نقدية يشترك فيها أبناء الجنوب وتمتد إلى كل أنحاء المملكة ، مما يوضح أن الثقافة تحاول أن تبرز في المجتمع وتجعل لها سوقا في المجتمع المعاصر .
لقد حفلت الصحف والمجلات بالعديد من المعارك الأدبية ، منها ما هو على مستوى المملكة والعالم العربي ، كمعركة " الشعر العمودي والشعر الحديث " و " القديم والجديد " و " الوضوح والغموض " وغيرها من معارك ، ويستحوذ الجنوب على معارك فرعية وبعض المعارك الخاصة بما يكتب عن المنطقة ، وقد اشترك في هذه المعارك الأدباء على اختلاف ألوانهم من أمثال على العمير ، وعلوي طه الصافي ، وحجاب يحيى الحازمي ، وأحمد بن محمد الشامي ، ومحمد ابن أحمد العقيلي وغيرهم مما راينا آثارها في صحيفة " المدينة المنورة " و " عكاظ " و " المنهل " و " الفيصل " و " اليمامة " وغيرها .
نسوق هذه المقدمة لنتناول أدبيا من جنوب المملكة ، اشتهر بشاعريته من خلال نشر عدد من الدواوين ، حتى لقب بشاعر الجنوب ، إنه الشاعر محمد على السنوسي ، وسنترك هذا الجانب الذي اشتهر به ، ونتناوله من جانب آخر غير الشعر لعلنا نأتي بشيء جديد يضاف إلى فحولته في الشعر . وإن كان هذا الجانب لا يبعد عن الشعر فما من شاعر أو كاتب مبدع إلا ويتخذ من النقد والمراجعة وسيلة للوصول بفنه إلى القمة التي ينشدها .
هذا الجانب الذي نتأمله في محمد على السنوسي نظراته النقدية التي تكشف عن مذهبه الأدبي الذي يفضله ويعتنقه ، كما نرى نظرته إلى الشعراء الآخرين وما يأخذه عليهم أو ما يعجبه في طريقهم ومنهجهم وما هي أسس التقويم التي يسير عليها في نقده ، كل ذلك نجده في كتاب " مع الشعراء " لمحمد على السنوسي الذي يكشف عن ثقافته ، وقد نستعين ببعض أشعاره في توضيح هذه النظرات التي تعتمد على تأثر الشاعر وذوقه الأدبي ، وذلك مقوّم مهم من مقومات العمل الفني منذ العصر الجاهلي إلى عصرنا الحاضر ، ولا يزال يتغلب على نظرات النقاد العرب ، على الرغم من تعدد مذاهب النقد واختلاف مذاهبه .
في كتاب " مع اشعراء " يرى مؤلفه أن أصالة الذوق الفني والملكة الفكرية والطبيعية الأدبية مهمة في النقد ، ومن هنا ينطلق المؤلف في جولات مختلفة يعبر عن رايه في النقد والنقاد والشعر والشعراء من أمثال طه حسين ، والرافعي ، وعلى محمود طه ، وشوقي ، وحافظ ، وحسن عبد الله القرشي ، وإبراهيم العُرّيض ، وإيليا أبي ماضي ، وعلى دمّر ، ونزار قباني ، ومحمود عارف ، وطاهر زمخشري ، وعلى حسين الفيفي ، وعبد القدوس الأنصاري ، وسعد البواردي ، وغيرهم من أصحاب الأعمال الأدبية .
يُقوَّم السنوسي في كتاب " مع الشعراء " أسلوب مصطفى صادق الرافعي وأسلوب طه حسين ، لأنهما اشتركا في الحكم على ديوان على محمود طه " الملاح التائه " ويرى أن أسلوب الرافعي " روحا من البيان العربي ، فيها وهج الفكرة ، وعظمة الأداء ، ومتانة البناء ، وأناقة التعبير ، وزخرف الفن ، وسمو الطبع ، سمات أدبية تنتشر في كل ما زاوله الرافعي من الكتابة في شتى المواضيع ، مهما اختلف نوع المادة التي يتناولها بالبحث والتحليل والوصف " فأدب الرافعي أدب القوة البيانية والقوة الخلقية ، والقوة اللغوية ، إلى آخر ما شئت أو تصورت من القوة بكل ما يتسع له مدلول الكلمة من معنى " ولهذا من يقرأ " وحي القلم " للرافعي لابد أن يستقطب صفاء فكره ، ويبلور أشعة ذهنه ليقف أمام هذا المتحف البياني المتوهج بشعاع وتلميحات التصوير ، فمن وراء كل كلمة ألق من الإبداع ومن خلال كل جملة قبس من التوليد والاختراع .
لقد أخذ بعض ناقدي الرافعي ملاحظات على أسلوبه ، وفي مقدمة ما أخذوه قوته البيانية وغوصه وراء الكلمات وقدرته على الاختراع والتوليد ، ولكن هذه الملاحظات ميزة في أسوبه يعجز أعداؤه عن الإتيان بمثلها ، ومن هنا نقف على وجهة نظر السنوسي ، كما تبدو وجهة نظره في نقد الرافعي ومنهجه حيث كان يقرأ متثبتا ما يريد نقده ، يتأمل الحرف والكلمة إلى البيت والقصيدة إلى الطريقة والنهج ، إلى ما وراء القول من بواعث النفس الشاعرة ودوافع الحياة فيها ، ومواطن الإلهام ، وكيف يسترسل الشاعر مع طبعه ، ويضع الرافعي نفسه مكان الشاعر يسائل نفسه ما الذي كان يصنعه لو عالج هذا الغرض وتناول المعنى . ويقول الرافعي " ثم أزيد عليه انتقاده بما كنت أصنعه أنا لو عالجت هذا الغرض أو تناولت هذا المعنى ، ثم أضيف إلى ذلك كله ما أثبته من أنواع الاهتزازا التي يحدثها الشعر في نفسي ، فإني لأطرب للشعر الجيد الوثيق أنواعا من الطرب لا نوعا واحدا " وفي ضوء هذه المقاييس النقدية قَوَّمَ الرافعي شعر على محمود طه في " الملاح التائه " وجعله من فريق الشعراء بل من أوائل أمثلته ، وقال الرافعي " أشهد أني أكتب عنه الآن بنوع من الإعجاب الذي كتبت به في المقتطف ، عن أصدقائي القدماء محمود البارودي وإسماعيل صبري وحافظ وشوقي رحمهم الله ، وديوان " الملاح التائه " لا ينزل بصاحبه من شعر العصر دون الموضع الذي أومأنا إليه " .
ومحمد على السنوسي معجب بالشاعر على محمود طه ، ولا شك أنه تاثر به كثيرا في شعره ، ولكنه يرى أن الرافعي قد تجاوز عن بعض المآخذ التي قد تؤخذ على الشاعر في ديوانه المذكور ، لأن عاطفة الإعجاب طغت على الناقد عندما رأى في شعره تماسكا في النسج وقوة في السبك وعروبة في الذوق ، مما يتفق مع مذهب الرافعي . ويخيل إلى أن السنوسي حائر بين المآخذ التي أخذها طه حسين على الديوان ، في النحو والوزن ، وبين إعجاب الرافعي ، ومع ذلك فإنه يرى أن النقد يخضع كثيرا للعوامل النفسية عند النقاد ، وذلك مرجع الاختلاف عند الناقد في آرائهم وأفكارهم فبعضهم ـ أحيانا ـ يتغاضى عن بعض الأخطاء أو الهنات الخفيفة ، لأن في العمل الأدبي محاسن تغلب على المساوئ ، وأن الإطار العام سليم فيتمثل قول الشاعر :
وما نبالي إذا أعراضنا سلمت         لما فقدناه من مال ومن نشب
وهذا ما سار عليه الرافعي الذي يتهم بالتشدد والمبالغة في النقد . بينما أخذ طه حسين بالشدة على صاحب ديوان " الملاح التائه " ونحا عليه باللائمة منحيث الموسيقى والوزن وعدم تآلف بعض القوافي في البيتين التاليين :
      روحك في روحي تبث الحياة          نزلت دنياي على نورهــا
      فإن جفاه ذات يوم سنـــاه             لاذت بليل الموت في قبرها
وينضم السنوسي إلى رأي طه حسين في ملاحظاته الفنية الدقيقة ، كما في البيتين السابقين حيث التنافر بين القافيتين وقع بين الباء الساكنة في كلمة " قبرها " والواو الساكنة في " نورها " . ويرى أن مثل هذه الملاحظات لا يتساهل فيها حتى يطلع علينا شعر مثل قولهم :
                  الموت عبر حدودنا فليزحفوا
      وليهجموا أو ليعتدوا وليعرفوا
      إن الدماء دماؤنا خلف الحدود .. ألخ
أو قولهم :
      من يصحبنى
      من يعضدني
      أنا إعصار
      أنا يا وطني أنا جبار .. ألخ
ويتسائل السنوسي ماذا يقول طه حسين والرافعي في مثل هذا الشعر ؟
ومن هنا يظهر السنوسي رأيه ونقده من خلال المتابعة والتعليق ، كما يتضح رأيه في أن :
      الشعر هندسة كبرى تكاد تــرى               في النسج واللفظ منه روح فرجار
      والوزن للشعر روح وهي إن فقدت            أضحى جمادا بلا حس كاحجـار
      قصيدة النثر مثل المشي جامــدة             والشعر كالرقص في سيقان أبكار
من هنا ظهر لنا وضوح راي السنوسي المؤيد لطه حسين في ملاحظاته الدقيقة ، ولكنه يختلف معه في موطن آخر ، لأنه تحامل في نقده وبعد عن الحقيقة " لنحب طه حسين ولكن لنحب الحقيقة أكثر منه " لقد هدف على تجريح قصيدة " شوقي " التي قالها في كتاب " الأخلاق لأرسطو " حين ترجمه أحمد لطفي السيد ، ولم يكن هذا التجريح بغرض النقد الأدبي ، كما كان في نقد على محمود طه ، بل وقف من شوقي موقف المتجني المسرف في التجني ، وأن نقده للقصيدة المذكورة كان بعيدا عن مناهج النقد المعقولة . فقول شوقي عن أرسطو :
             ووسائل مثل السـلاف                إذا تمشت في النديــم
             قدسية النفحات تسكـر               بالمذاق وبالشميـــم
             يا لطف أنت لها الصدى             من ذلك الصوت الرخيم
ويقول السنوسي في كتابه " مع الشعراء " ص 17 " عفوا يا دكتور إذا نحن خالفناك في هذا ورأينا لأنفسنا رأيا آخر ، وقلنا إن الشعر فن ، والفن يعتمد على اللفتة البارعة واللمحة الخاطفة ، وهو لذلك لا يحتمل كل هذه الحذلقة ، ولا يتسع لكل هذا التطويل ، وقديما ضاق البحتري بمثل هذه . " ومثل هذه التعليقات يوجهها السنوسي لطه حسين في نقده لقصيدة حافظ إبراهيم في الغرض السابق ، أعني " كتاب الأخلاق لأرسطو " .
ويقوّم السنوسي ديوان شاعر سعودي هو حسن عبد الله القرشي ، وقد عرفه عن قرب من خلال الحياة الأدبية ، وخاصة في الندوات التي كانت تعقد في دار صاحب المنهل عبد القدوس الأنصاري ، وكان القرشي يلقى بعض القصائد اللامعة من محفوظاته بين يدي الأدباء والشعراء ، وقد راي فيه السنوسي صورة نموذجية للشاعر الحالم الأديب الفنان ووقف مع يوانه " في مواطب الذكريات " وخاصة قصيدة " قبس من الهجرة " التي يستهلها بقوله :
             صفق الوجد في الفؤاد وغنـى          وتجلى الحنين في الفؤاد لحنـا
             إيه يا ذكريات من أين ضاءت        صور منك تترك الروح مضني
ويعلق على مقطعها الأول بقوله " استهلال بديع وألفاظ مختارة ، وتراكيب مسبوكة ، فيهامن القديم جزالته ، ومن الحديث سلاسته ، وحسبنا أن نقف عند هذا البيت :
          غمر الكون الجمال وبالبشـر          وبالحق مستفيضا أغنــــا
ونتامل ما تصوره كلمة " أغن " من معان سامية ، وصور رفاقة ، وجمال أخاذ ، إذ رب كلمة تأتي في ختام بيت من الشعر فتكسبه من الروعة والجلال ، ما يطغى على كل أبيات القصيدة ، وهل كان " الحق " لقافلة الإنسانية المعذبة إلا واحة غناء ، فتضئ إلى ظلالها الوارفة أرواح المجاهدين في سبيل الخير والعدل والجمال . وهكذا يتناول الديوان بيتاً بيتاً وقصيدة قصيدة حتى يأتي حكمه على ديوان القرشي بانه يتضوع بروائح الجمال الخلاب ، والحب الرقيق ، وكأنه أوتار ترن في وجدان الإنسان كما في قصيدة " نجوى " .
          أيقظينى فقد جهلت مكاني                   واغمري خاطري بعطر الأماني .. الخ
وربما تكشف الدراسات الأدبية عن وجود علاقة متينة من حيث الفكر والمذهب الفني بين السنوسي والقرشي ، لأن السنوسي يكاد يقف مع كل حرف من حروف الديوان ، ويرى فيه صدى للفن الشعري الرفيع ، وكل كلمة عنده مختارة ومنسقة تنسيقا بارعا ، حتى تجئ قصائد القرشي كالسبيكة الذهبية لمعانا وإشراقا .
وفي استعراض السنوسي لديوان " الأنصاريات " ورباعيات البواردي وسنينة البحتري ، وقصيدة " النيل " لشوقي ، وغير ذلك من موضوعات ، يكشف لنا ذلك عن مذهبه الأدبي وطريقته الفنية في النظم ، مما نصل به إلى المنهج الذي يفضله في الشعر ، وموقف من اللغة العربية ، نحوها وصرفها وبلاغتها ، وظلالها وموسيقاها ، وكلها جوانب توضح لنا حظ محمد على السنوسي من النقد الأدبي ، وترينا صورة جديدة لم نرها من قبل ، وإنما عرفناه وعرفه الناس في موكب الشعراء .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق